لي أن أشكر تقاطعات الصّدف إذْ جعلتْني ألتقي بصوتٍ أحبّهُ وأشعر عميقاً بأنه مني وفمُهُ يقولني،

لي أن أشكر تقاطعات الصّدف إذْ جعلتْني ألتقي بصوتٍ أحبّهُ وأشعر عميقاً بأنه مني وفمُهُ يقولني، حيث أُتيح لي مؤخّرا قراءة ديوان الشاعر الفلسطيني عصام السعدي يشرق بالحنين الصّادر عن دار أزمنة الأردنية.
ينطق الديوان بتجربةٌ خاصّة في موشور إنساني متعدّد الطبقات والأحوال وبقدر ما تحيل - هذه التجربة - إلى الخارج بوقائعه شراراتٍ تنضج القصيدة بقدر ما تتبدّى مشبوكةً بالأغوار وبالدخائل التي مسّها الجرح الفلسطيني وجرحُ الحياة الراعف بالغياب وبصرير الزمن إذْ يمرّ فيطوي الشخص والحكاية؛ فيخفي الأثر تحت عجلات النسيان:
(ومرَّ الزمانُ
ولم ينتبه.. لرائحةٍ
في سوادِ القوافلِ تبكي مع الريحِ
...
لم ينتبه).
الحكايةُ في قيد الزمان الحديد، يتقصّى الشاعر نتفها المتطايرة فيعيد بذرها في أثلام الروح ويرويها بهبّات الحنين وهِباته؛ فتقوم الصورةُ من نعاسها. تستوي في بحر الكلام مجدافا وشراعا وجهة:
(لم تنتهِ بعدُ الحكايةُ
كي نقولَ مضيتَ محفوفا بِعِرْقِ الغار
وغسلتَ في نهر الحياةِ
حذاءكَ العالي
فما زلنا نجادلُ في ارتجالاتِ الحياةِ
وننحني للريحِ أحيانا
وأحيانا نبالغُ أننا قمنا بوجهِ الريحِ
ظلاً من حياة)
إن تجربة السعدي تنطقُ بجرحِها عنّا في ألمِ الكائن من معضلة وجودِه؛ في النّقصان الذي يحنّ إلى اكتمالٍ لا يكتمل أبداً فقد خرجتْ الأنثى ولن تعود، تبقى في الظلِّ والصمت ويبقى الشاعر يناور ويستدني، يصنعُ الشعرَ وتخذله الحياةُ؛ شخصاً يرعى الفخاخَ ويطيبُ له أن يقعَ فيها وبغير هذا لن تنقدحَ النّارُ ثانيةً في جمرةِ الشعر وتتأرّجَ الكلماتُ عابقةً بسحرِها الاستثنائي ينبثقُ من السيرةِ العامة أو من العلاقات في حدودها القصوى؛ الحدودِ التي تَرسمُ والتخومِ التي تطلّ على الفراغ الشاسع حين تكفهّرُ الرّوحُ ولا تجد من يرفع الصّخرةَ أو يدفع قليلاً حصارَ الأسلاكِ وفمَ البندقيّة.
في يشرق بالحنين نقرأ الشاعر شاهِداً وشريكاً وصريعاً يفزعه بياضُ الورق الذي لا ينتظرً غير دمِهِ مسطوراً؛ يختزل ويضيء ويشرق؛ حجراً يدوِّمُ في بحيرةِ الكلام فتتّسع الدوائرُ وتلامسُ أرواحَنا، لأنّ حديدَ التجربةِ ساخنٌ بما يكفي لنستجيبَ ونشعرَ بالحضورِ الحي؛ عدّتُهُ اللحمُ المضطرب في مضائق الكلام، يحملُ على رأسه جرّةَ الضوء، وحسبُهُ أنه يحملها ولو لم ينتبه الّزمان؛ هذا القَدَرُ المُمَوَّهُ بالجغرافيا والتاريخ وقلقِ الأمكنة ينصرفُ عن الشاعر، لكنه فيما ينصرف يؤشِّرُ بغيابِهِ على الوجود الساطع للقصيدة، وهذه هي الجائزة؛ جائزتُنا.