قبل يوم العيد، لم يكن للمركبات الصغيرة أثر في مكة المكرمة أو المشاعر المقدسة، وأظن ذلك يعود إلى جهود الجهات المعنية بإدارة شؤون الحج، ولكن لماذا عادت كل هذه السيارات الخاصة بعد العيد، وبهذه الأعداد الكبيرة؟!
ما كنت أنوي الكتابة هذا الأسبوع لو لم أجد نفسي عالقا في زحمة المرور وأنا أغادر منى ثاني أيام التشريق، بعد أن أنهيت يوما شاقا من العمل في دراسة علمية على مخلفات الذبح في منى أيام الحج. لن يتطلب الأمر مبالغة في الوصف، لإيصال الرسالة، فأنا هنا منذ أكثر من ساعتين على طريق علي بن أبي طالب متجها إلى شارع الحج، بلا حراك، سوى أمتار بطول سيارة قرر قائدها القفز على الرصيف والعودة من حيث أتى.
إذا نظرت حولك، فلن تجد إلا قلة من الحافلات المخصصة لنقل الحجاج، والسواد الأعظم فيما حولك من المركبات الصغيرة التي لا تحمل ما يشير إلى علاقتها بالحج وخدمة الحجاج، تخالف بذلك أنظمة الحج، وتنقل الركاب دون ترخيص. وبعض السائقين لا يعرف الطرقات، وآخرون لا يحسنون القيادة، وغيرهم لا يحترم أنظمة المرور، ولا يراعي حقوق الآخرين على الطريق. يعكس السير، ويقفز على الأرصفة، ويسابق غيره بطريقة جنونية. وهناك المركبات العتيقة التي لا تخرج إلا أيام الحج، تراها متعطلة هنا وهناك، تعيق الحركة وتشوه المنظر العام، وتلوث البيئة بأدخنة العادم.
قبل يوم العيد، لم يكن لهذه السيارات أثر في مكة المكرمة أو المشاعر المقدسة، وأظن ذلك يعود إلى جهود رجال الأمن والمرور، والجهات الأخرى المعنية بإدارة شؤون الحاج. وكان للحزم الذي مارسوه لمنع استخدام السيارات الخاصة في نقل الحجاج دور فاعل يشكرون عليه. وهنا يبادر إلى الذهن السؤال المنطقي، لماذا عادت كل هذه السيارات الخاصة بعد العيد، وبهذه الأعداد الكبيرة!
أولا؛ إذا أقررنا أن أحد أهم مسببات الازدحام في هذه الأيام يرجع إلى وجود هذه المركبات الصغيرة بأعداد كبيرة، وثانيا؛ إذا عرفنا أن الدافع وراء وجودها في المنطقة هو نقل الحاج والتكسب من ذلك، فلماذا لا نعالج الأسباب ونبدأ بحل أزمة المركبات الصغيرة؟
هناك طرق عدة قد تكون حلا يعالج الأمر. منها إيقاع عقوبات موجعة على المخالفين كتلك التي شاع ذكرها قبل الحج، والتي تقضي بحجز السيارات المخالفة كل فترة الحج، وتغريم قائدها مبلغا كبيرا من المال، وقد كان حلا قيد المخالفين، ويسر حركة المواصلات. نحن لا نعرف التفاصيل، فقد يكون الأمر أكثر تعقيدا مما نظن، أو أنه ولأسباب لا ندركها لا يمكن تطبيقه أيام التشريق، إن كان كذلك، فلماذا لا نغني المستفيدين بتوظيف سياراتهم في نقل الحجاج، ونستبدلهم ببعض المتعاقدين من السائقين المستقدمين فقط لهذا الغرض، أو في تقديم الخدمات الأخرى للحجاج؟ وإن لم يكن هذا يجدي، أو لا يمكن تفعيله على أرض الواقع، وفي ظروف المكان والزمان، فلماذا لا نقطع الطريق على المتسببين في إعاقة حركة المرور، وأعني بذلك توفير مواصلات أكثر راحة وأقل كلفة تجذب الركاب، وتجعل استخدام السيارات الصغيرة أمرا غير مبرر؟
لو كانت هناك حافلات تتردد بين الحرم ومكان قريب من جمرة العقبة، ولها مسار مخصص لا يشاركها فيه غيرها، ويمكنها من الوصول إلى الحرم ومنه إلى منى، بسرعة، ويتم تسييرها بانتظام، وبأعداد تكفي، وكانت بأسعار مقبولة، لما وجد المخالف من يستقل سيارته، ولدفعنا به إلى البحث عن مصدر رزق آخر، قيادة حافلات نقل الحجاج مثلا، أو خدمة الحاج في شؤونه الأخرى.
ومن الممكن التوسع في هذا النظام ليشمل نقاطا أخرى على مخارج ومداخل منى، وتسيير مركبات منها إلى الحرم وإلى نقاط أخرى يقصدها الحاج في المدينة.
وهناك لا شك أمور أخرى لها سهمها في تصعيد الاختناقات المرورية أيام الحج، أهمها، جهل السائق بالخطة المرورية، وقلة درايته باتجاه السير في الشوارع الرئيسية، ومعرفة المداخل والمخارج المغلقة. لا يمكن لشخص أن يخطط لتنقله هناك، بل يتخبط في شوارع المدينة، ليس أمامه إلا أن يجرب الطرقات واحدة تلو الأخرى، ويبقى لذلك أضعاف ما يحتاجه من الوقت لقضاء حوائجه، ويتسبب بذلك في زيادة عدد السيارات على الطريق.
وهناك كذلك ما يعرف في إدارة المواصلات بمخالفة توقعات السائق، فقد تجد الطريق التي سلكته قبل أقل من ساعة وقد سدته الكتل الخرسانية، ثم تبدأ رحلة الدوران. لا توجد لوحات ترشدك، ولا رجل الأمن أو المرور في ظرف يسمح له أن يدلك على الطريق البديلة!
ولأنهي مقالي خرجت من الاختناق بعد ثلاث ساعات واستهلاك نصف ملء الخزان من الوقود، ثم انتظرت حتى الثانية صباحا لأغادر المكان متجها إلى مدينة جدة، فلم لا تكون هناك طريق من منى إلى جدة ولا تعبر قريبا من الحرم الشريف؟
لا نزعم أنها الحلول، ولكن مقترحات مع التي يطرحها المتخصصون في هندسة وإدارة المواصلات، ولعلها تنفع المهتمين بإدارة الحج وخدمة الحجيج، وكل عام وأنتم بخير.