تشهد المنطقة تحولاً في طريقة تفكير القوى العظمى حول مجلس التعاون، وآخرها هو هذا الحوار الذي يسعى إلى ترجمة إمكانيات الجانبين إلى مصالح حقيقية مشتركة من خلال الحوار بدلاً من الهيمنة
كانت لحظةً تاريخيةً حينما عقد الحوار الاستراتيجي الأول بين روسيا ومجلس التعاون، في أبوظبي، يوم الثلاثاء 1 نوفمبر 2011م. وشارك في الحوار وزراء خارجية دول المجلس وروسيا، والأمين العام للمجلس، وسبق الاجتماع الوزاري نقاشات موسعة على مستوى الخبراء لأساسيات الحوار الاستراتيجي وما يتوقعه الجانبان من نتائج لهذا الحوار.
ممثل روسيا في الاجتماع، وزير الخارجية سيرجي لافروف، دبلوماسي مخضرم معروف. قابلته للمرة الأولى في الثمانينات في نيويورك، في بدايات عمله الدبلوماسي، وكان وقتها يعمل في بعثة الاتحاد السوفييتي لدى الأمم المتحدة. وكان مثلي قد وصل إلى نيويورك في عام 1981، إلا أنه غادرها عام 1988، قُبيل سقوط الاتحاد السوفييتي. ثم عاد لافروف إلى نيويورك عام 1994 ممثلاً لروسيا الاتحادية لدى الأمم المتحدة، وظل فيها إلى عام 2004، حين اختير وزيراً للخارجية. وممثل روسيا، إحدى الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، منصب شديد الصعوبة والحساسية في الأمم المتحدة، خاصة وروسيا تقف وحيدة، وأحياناً مع الصين، أمام التحالف الغربي في المجلس في كثير من القضايا.
ومن اللافت للنظر أن نجد الولايات المتحدة الأمريكية، المنهمكة في التحضير لانتخابات العام القادم، وكأنها تغتنم الفرصة تلو الفرصة لإضعاف نفوذها في المنطقة بانحيازها الكامل لإسرائيل، كان آخرها التهديد بقطع مساهماتها في اليونسكو، لأن المنظمة قبلت فلسطين عضواً فيها. وفي المقابل، نرى روسيا الاتحادية تسعى لبناء الجسور في الخليج، أحد أهم مناطق النفوذ التقليدي للولايات المتحدة.
وتحاول روسيا أن تتجنب ما تعودت عليه القوى العظمى في السابق من إملاء الشروط والمبادرات والأفكار، وكأنها تمتلك جميع الحلول. ولعلها أدركت أن الخليج، أو على الأقل دول مجلس التعاون، مهتمة بحوار حقيقي، ولا تبحث عن أجوبة جاهزة ووصفات عفى عليها الزمن.
ونجد مثالاً على ذلك في مبادرة روسيا لأمن الخليج، وهي فكرة طُرحت منذ عدة سنوات، وكانت مبنية على تحليلات خبراء روس دون مشاورات أو حوار مع دول المنطقة، إلا أن الفكرة لم تلق الكثير من القبول في المناسبات التي طُرحت فيها. ويبدو أن روسيا تعلمت الدرس، ووجدت أن هناك حقائق جديدة في المنطقة، وأكثر من ذلك أن دول المنطقة قد طورت أساليب متقدمة للحوار حول قضاياها الرئيسية والتعاون مع شركائها وأصدقائها.
ومن النقاشات الكثيرة التي دارت بين ممثلي مجلس التعاون وروسيا، ربما استوعبت روسيا التطورات الجديدة في المنطقة، ومنها جاءت فكرة الحوار الاستراتيجي، على ألا يركز حصرياً على الأمن والسياسة، بل يجب أن يسعى لاستكشاف جميع المجالات التي يمكن أن تكون فيها مصالح مشتركة. ومن خلال تلك المناقشات الاستطلاعية أيضاً، اتضح أن ثمة إمكانيات واقعية لعلاقة استراتيجية تشمل، بالإضافة إلى التنسيق السياسي، التجارة والاستثمار، والتعاون التكنولوجي، والحوار الثقافي والحضاري.
وكان الوزير الروسي حريصاً على تأكيد رغبة روسيا في حوار مع العالم الإسلامي، وأشار إلى الوجود الإسلامي في روسيا، الذي يبلغ اليوم نحو 23 مليون مسلم حسب بعض التقديرات، وهو وجود قديم قدم روسيا نفسها في رأي المؤرخين. وشكر الوزير المملكة العربية السعودية على رعايتها السنوية لحجاج روسيا.
ومع وجود توافق في المصالح والمشاغل بين روسيا ومجلس التعاون في كثير من القضايا، لا يختلف اثنان على أن ثمة قضايا تتباين فيها وجهات النظر، وربما وقفا نحوها مواقف متعارضة. فقضايا البوسنة والهرسك، وكوسوفو، وأفغانستان وغيرها أظهرت ذلك الخلاف في السابق، كما تُظهره اليوم قضية سوريا وغيرها. ولكن تباين وجهات النظر سبب للحوار وحجة لضرورته وليس العكس.
ومن المهم إذن، وروسيا ومجلس التعاون يبدآن هذا التحول التاريخي في علاقتهما، أن نتذكر أن بعض العادات القديمة في التفكير، وبعض الصور النمطية لدى كل منهما، ستظل قابعة في أذهان البعض، ولن تموت قريباً، بل ستظل تتحيّن الفرصة للظهور والعودة. ولهذا فربما كان من المفيد أن تتذكر روسيا، وهي تسعى لتأسيس علاقة جديدة مع دول المجلس، أن خليج اليوم قد شب عن الطوق، مستقل عن وصاية أي قوى خارجية. وفي المقابل، فإن علينا أن نتذكر أن سياسة روسيا لم تعد تمليها الإيديوجيا، ولا تحددها ذكريات التضامن مع العالم العربي أيام الحرب الباردة، بل أصبح الاعتبار الأساسي هو المصالح الوطنية للشعب الروسي.
ولو نظرنا إلى هذه المصالح، لوجدنا أن هناك القليل اليوم من المصالح الاقتصادية التي يتم بالفعل تحقيقها بين روسيا ودول المجلس. فالتبادل التجاري بينهما في حدود ملياري دولار، وهو مبلغ ضئيل مقارنة بحجم الاقتصادين الروسي والخليجي، وهناك بعض التنسيق في مجال الغاز والنفط، وبعض الاستثمارات المتبادلة بأحجام متواضعة.
ولذلك فإن مصالح الجانبين لا يعبر عنها هذا الواقع، بل تكمن في الإمكانيات الكبيرة التي يمتلكها الجانبان (وقد أشرتُ إليها في مقالات سابقة)، والتي يمكن من خلال آليات الحوار الإستراتيجي تطويرها وترجمتها إلى مصالح حقيقية وعلاقة أعمق بينهما تتعدى مستوى التمنيات.