إغفال قضاء التعويض وعدم الاهتمام به؛ جعل للكائد سوقاً رابحة يكسب فيها ما شاء، ماذا لو أن النظام القضائي أجاز للمدعى عليهم المطالبة بالتعويض عن كل دعوى كيدية؟

في حديث ماتع مع رئيس إحدى المحاكم قال لي فيه إن أهل هذه البلدة ينعمون برخاء في إقامة الدعاوى على بعضهم، إلى حدٍ عجزت معه المحكمة أن تستوعب ما يرد إليها من ملفات، وجلها دعاوى كيدية، إذ ما إن يسمع الرجل من صاحبه أدنى كلمة - يظن منها أنه يسخر منه، أو يشم منها رائحة السب - حتى يسارع إلى المحكمة لطلب تعزيره على إهانته، وتأديبه على انتهاك حمى عرضه الفسيح، ثم ما يلبث أن يتقدم مرة أخرى بدعوى جديدة، وهكذا كل يوم لكل واحد دعوى أو أكثر ضد شخص بعينه أو أشخاص، وقد يكون منشأ تلك الدعاوى واحداً، وقلما يكون السبب متعدداً. يقول فضيلته يرحمه الله: لقد حيرني هذا الوضع من أهل البلدة وما يعانيه أهلها من تفكك في الظاهر، وهم في الباطن على خير وئام، فالمتداعيان يتواعدان في منزل أحدهما قبل المثول أمام المحكمة، ويمكن أن يضيف أحدهما الآخر قبل وبعد الجلسة، وقد يترافقان في وسيلة نقلهما إلى المحكمة، وما إن يجلسا أمام القاضي حتى تعلو أصواتهما، ويكشر كل منهما في وجه صاحبه طالباً إنزال أشد العقوبات في حقه. وأردف فضيلته غفر الله له قائلاً: فسننت لهم سنة - لعلها حسنة - بأن منعت قبول أي دعوى من أي شخص له دعوى لا تزال قائمة، وجعلت انتهاء الدعوى القائمة أجلاً لقبول الدعوى التالية. إن هذا الإجراء الطارئ لم يحد من كثرة الدعاوى، لكنه كان سبباً في استعجال المدعين لإنهاء قضاياهم القائمة ليتاح لهم المجال في تقديم الدعوى اللاحقة. يقول فضيلته: كانت تلك القضايا تخلو من البينات غالباً، ولذلك يلجأ أصحابها إلى طلب اليمين من أول جلسة، وكأني به يريد التباهي بتحليف خصمه أمام القاضي، أو تعييره بإلجائه إلى الحلف ليسلم من الحكم عليه. لم يكن أمام القاضي من سبيل للحد من كثرة الدعاوى الكيدية إلا أن يخترع إجراءات تبطئ من ترادف الدعاوى إلى المحكمة، ولو أن النظام القضائي - آنذاك - أجاز للمدعى عليهم المطالبة بالتعويض عن كل دعوى كيدية لما شهدت المحاكم ذلك الكم الهائل منها، ولتفرغ القضاة لما هو أهم منها.
إن إغفال قضاء التعويض وعدم الاهتمام به؛ جعل للكائد سوقاً رابحة يكسب فيها ما شاء، فقد ذكر لي أحد المحامين عن أحد موكليه الذين ابتلوا بدعوى كيدية نشأ عنها صدور قرار بمنع موكله من السفر، فاضطر لعرض مليوني ريال على المدعي ليتنازل عن دعواه؛ حتى يسافر فلا يؤثر القرار على سمعته في السوق، وعلى مكانته الاجتماعية.
روى البخاري في صحيحه عن وَهْب بن مُنَبِّهٍ أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قَال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: (مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْم). وروى أبو داود والنسائي عن عمرو بن الشّرِيد عن أبِيه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قَال: (لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبَتَهُ). وصححه الألباني. ومن عقوبة الخصم الكائد والمماطل: تحميله أجرة المحاماة ومصاريف الدعوى والسفر؛ لقاء مطله ومنعه الحق الذي عليه. ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس نقله عنه صاحب الاختيارات الفقهية، ونصه (إذا كان الذي عليه الحق قادراً على الوفاء وماطل حتى أحوجه إلى الشكاية: فما غرمه بسبب ذلك على الظالم المماطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد).
وقد جاء في جميع القوانين الإشارة إلى تحميل الخصم الظالم مصاريف الدعوى من باب العقوبة له، ولم أر من استوفى بحث ما يتعلق بالتعويض عن الدعوى الكاذبة، ومنها :
1- مصاريف الدعوى. ويقصد بها رسوم وضرائب قبول الدعوى في المحاكم التي تفرض رسوماً على التقاضي.
2- أجرة المحامي. ومن الطبيعي ألا يقبل قول المحامي ولا موكله في تحديد الأجرة، بل يلجأ إلى نسبة من المبلغ المحكوم به، أو إلى أجرة محددة لكل جلسة، أو لكل ساعة من ساعات دراسة الدعوى، ويمكن الالتجاء إلى أهل الخبرة لتحديدها عند الاختلاف.
3- مصاريف السفر. وهذه تحدد لمن يضطر إلى السفر لمحاكمة من يدعيه أو يدعي عليه.
4- التعويض المعنوي. وهذه تعتمد على مقدار الضرر المتحقق من الدعوى، ومنه: إدراج المتضرر في قائمة المتعثرين عن السداد لدى شركة (سمة) للمعلومات الائتمانية.
5- حبس المال. وهذا في المطالبات المالية التي يتأخر فيها المدين عن سداد ما عليه مما يحرم الدائن من استثمار ماله مدة من الزمن يمكنه فيها الاستفادة منه لولا مطل المدين.
6- نقص السعر. وهذا في المطالبات بالسلع التي تنقص قيمتها مع فوات الوقت قبل الحكم بها لصاحبها.
7- زيادة السعر. وهذه تأتي في المطالبات بأقيام السلع التي تزيد مع الوقت فتكون أقيامها يوم الحكم أكثر منها يوم إقامة الدعوى.
8- فوات الكسب. وهذا يكون عند تسبب الخصم المماطل في فوات كسب محقق لخصمه بسبب دعواه الكائدة.
9- قيمة العلاج. وهذه تكون للمصاب بجروح أو أعراض مرضية تسبب فيها خصمه.
ولأن وزارة العدل السعودية بصدد وضع تنظيم خاص للحكم على الطرف الخاسر بمصاريف الدعوى كما جاء في تصريح لمعالي الوزير قبل سنة ونصف تقريباً؛ فلعل الوزارة الموقرة تحيط في دراستها هذه بكل ما يدخله التعويض من أفرع الضرر من الدعاوى الكيدية، والمماطلات المقصودة، كما يمكن الوزارة الموقرة أن تسترشد بما جاء في قوانين المرافعات العربية والعالمية، ومنها: قانون المرافعات الخليجي الاسترشادي، ففيه سبع مواد عن مصاريف الدعوى، ومنها ما لا يتحمله الطرف الخاسر إلا إن كان كائداً لخصمه.