ما يمكن قوله لكم يا أبنائي، وما أعتقد أنكم ستفهمونه؛ هو أني وخلال هذا التجمع المبارك سأقوم باستخراج محصلة ما طحنته، وأنا معتكف مع ذاتي في برجي القديم، منكباً على كتبٍ قد لا يهمكم شأنها، وعليكم حينها ـ ولأني بالطبع أعلم منكم بالأمر ـ هزّ رؤوسكم، فبمقدار هز رؤوسكم سينصب التلقين بداخلها، وستتغلغل الأفكار بها، وهو ما يمكن تسميته مرحلة التشريب، وهي التي تنتج لنا عقولاً معلبة تحت إشرافنا نحن الكبار. فنقول: كلما قلت كلاماً مكرراً منذ عقود كنت رجلاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من أي مكان آخر، وهو ما يحيلك تلقائياً بالإضافة لاختراع عدو ما لأن تكون ذا سلطة صوتية تتلوها الجماهير، وبالرجوع لـحدوتة العدو يا صغاري فالأمر سهل.. إن رجعت للبيت، وتكومت على نفسك، فجرب ما سأقوله لك، خذ لك كائناً صغيراً من أي مكان على هذا الكوكب، ولنقل كادحاً يعمل في منجم بقرية منسية في أقصى أوروبا مثلاً، تخيل لوهلة أنه سينقض عليك على حين غفلة خالعاً خصوصيتك الفريدة، نازعاً ثقافتك المتوارثة، وأنه سيكون سبباً بضياع هويتك وخراب طبيعتك.. اغضب، اغضب أكثر، حذّر الناس منه على منبرك.. وهم بدورهم - مشكورون - ودون وعي سينشغلون به، سيحاولون محاربته.. ربما حينها لن يدري أصلاً عنهم.. لا عليك.. استمر، وخلال مسيرتك تلك، كن على علم بأنك لا تفكر، وكن سعيداً بذلك، بل وافتخر بتعطيلك للجزء المهم في رأسك، واضعاً بدلاً عنه ببغاء متحمساً، ثم حاول أن تصدّر حالتك الغريبة تلك لكل ما سواك.. وثق بأنك إن فعلت ذلك فإنك قد ساهمت بترسيخ مكانتك كأكثر الكائنات فائدة على سطح الأرض.. ولا يضيرك وقتها كل هذه الهجمات التي توجه لك ما دمت ترتدي هذه الثقة الصمّاء، ثم اذهب للنوم قرير العين.
رفعت الجلسة.. أعني انتهت الوصايا.