لأن حل قضايا التنمية يعتمد أساساً على حسن أداء الأجهزة الحكومية، فإن أفضل طريقة لتخليد ذكرى ولي العهد الراحل هي إنجاز الإصلاح الإداري الذي كان يسعى إليه طوال حياته العملية
صدر الأمر الملكي رقم 224 في يوم الخميس 27 أكتوبر 2011، باختيار الأمير نايف بن عبدالعزيز ولياً للعهد في المملكة العربية السعودية خلفاً للراحل الكبير الأمير سلطان بن عبدالعزيز، ونص الأمر الملكي كذلك على تعيين سموه نائباً لرئيس مجلس الوزراء وزيراً للداخلية. وقد لفت نظر المراقبين السرعة والسلاسة اللتان ميزتا عملية اتخاذ هذا القرار.
ويظهر هذا القرار التماسك والاستقرار الذي تتميز به نظم الحكم في الخليج عموماً، مع أنه ربما خيب بسرعته وسلاسته توقعات الخبراء الأجانب الذين طالما ضربوا أخماساً بأسداس، وهم يكتبون وينظّرون عن أوضاع المنطقة، ويتوقعون فراغاً سياسياً أو حتى عدم الاستقرار كلما جد جديد، لأنهم يعملون ضمن نموذج واحد لا يرون سواه.
وفي حين أن الاستقرار السياسي والاستمرارية يميزان دول مجلس التعاون منذ أجيال، في الحقيقة، فإن اقتصاداتها تتميز بالعكس بالديناميكية وسرعة التغيير. ولذلك فإن من أصعب الأمور التنبؤ بالتغيرات الاقتصادية في هذه المنطقة، والتي قلما تتبع التوجهات في بقية العالم. فمعدلات النمو العالية التي تعيشها دول المجلس، على الرغم من الكساد الاقتصادي العالمي وبعض الإشكالات المحلية، هي إحدى انعكاسات هذا المزيج الخليجي بين الاستقرار والثبات من جهة، والمرونة والتجديد من جهة أخرى.
وكنتيجة لهذا النمو المتسارع، فلربما لم تلاحظ أن حجم الاقتصاد الخليجي (أي مجموع الناتج المحلي الإجمالي لدول مجلس التعاون الست) قد تجاوز التريليون دولار منذ فترة، بل بلغ هذا العام 1.36 تريليون دولار، وهو ثلاثة أضعاف ما كان عليه في بداية العقد الحالي. وهذا أداء مذهل في الحقيقة.
ووفقاً لآخر الإحصائيات، يُتوقع أن يتجاوز معدل النمو الحقيقي للاقتصاد الخليجي 7% خلال عام 2011م، على الرغم من تباطؤ الاقتصاد العالمي وما ينتج عن ذلك من انخفاض الطلب على النفط.
ومن غير المعروف ما سيكون عليه أداء الاقتصاد في عام 2012، وإن كانت أغلب التوقعات تشير إلى تباطؤ في معدل النمو، وذلك نظراً إلى أنه أصبح شبه مؤكد أن الاقتصاد العالمي سيدخل مرحلة أخرى من الركود خلال الأشهر القادمة، كما كتبتُ مفصلاً في مقالات سابقة. ومع ذلك، فلو تراجع نمو الاقتصاد العالمي، فإن دول المجلس تستطيع بما توفر لديها من فوائض خلال الأعوام الماضية أن تحافظ على معدلات نمو صحية، كما فعلت منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008م.
وبصرف النظر عما سيحدث على وجه التحديد في عام 2012م، فإن من المؤكد أن الاقتصاد الخليجي سيتضاعف حجماً خلال هذا العقد، وسيتجاوز تريلوني دولار خلال السنوات القليلة القادمة.
ولا أحتاج إلى أن أفصل في أبعاد ومصادر ثروة دول الخليج. فهي تملك 45% من احتياطي النفط العالمي و25% من الغاز. وحسب بعض التقديرات، يشكل ما تملكه صناديقها السيادية نحو ثلث رأسمال مجموع الصناديق السيادية في العالم. أما ثروات الخليجيين (الخاصة) فلا أحد يعرف على وجه الدقة، ولكن يقدرها البعض بأربعة تريليونات دولار.
أما تواصل دول الخليج مع العالم الخارجي فهو أحد مميزات هذه المنطقة. فمطاراتها تعج بالمسافرين، والقادمين إليها من كل حدب وصوب للسياحة، أو العمل، حيث يسيطر العمال الوافدون.
ويتفوق أهل الخليج على جيرانهم في معدلات استخدام وسائل الاتصال الحديثة، إذ تبلغ نسبة استخدام الإنترنت نحو 70% من إجمالي السكان، ويستخدم نحو ثلثي هذا العدد وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر. ولهذا تجد الأجانب كثيراً ما يتعجبون مما يعتبرونه تناقضا بين التزام الخليجيين بالتقاليد إلى حد التزمت أحياناً، وبين ولعهم باستخدام أحدث التقنيات ووسائل الاتصال الحديثة.
ومع كل هذه الأخبار الطيبة، ليس كل ما لدينا على ما يُرام. افتح أي صحيفة وستجد شكاوى مرة من تزايد معدلات البطالة، خاصة بين خريجي وخريجات الجامعات، ومن ترهل الجامعات وتخلف مناهجها، وضعف أداء طلبة المدارس في العلوم والرياضيات، ومن تدهور البنية التحتية في كثير من مناطق الخليج. وعلى مستوى الاقتصاد، هناك شكوى من الاستهلاك السريع لاحتياطيات البترول وموارد المياه.
ذكرتُ مصادر الثروة والإمكانات المالية في دول الخليج، ونعرف كذلك أن لدينا القدرات الفنية والفكرية على مواجهة التحديات التي أشرتُ إليها، فلماذا لم نستطع حتى الآن معالجتها؟ قد نختلف على الأسباب الحقيقية، لكن من أهمها في ظني ضعف الأجهزة البيروقراطية التي يُوكَل إليها التنفيذ، وضعف الأنظمة الرقابية التي تشرف على أعمالها وتحاسبها.
ولعلنا نتذكر أن ولي العهد الراحل الكبير سلطان كان في معظم حياته العملية مهتما بإنجاز عملية الإصلاح الإداري، أي معالجة الضعف الإداري الذي أشرتُ إليه كسبب رئيس لاستمرار التحديات التي تمنع من الوصول إلى أهداف التنمية. ولهذا فربما كانت أفضل طريقة لتخليد ذكراه في العمل الإداري هي استمرار ذلك الجهد، وتحقيق ما كان يسعى إليه من إصلاح جذري للجهاز الحكومي.