لم أصدق لأول وهلة أن القذافي قتل بهذه البساطة خلال الأسر، وأن الحكومة الانتقالية المسلمة سمحت بحدوث هذا الاعتداء على جثة إنسان من خلال السماح بتركها ليتفرج عليها الناس لمدة أيام. ربما كان القذافي مجرما، لكن هناك قانون لمعاقبة الناس
ما هو الخط الذي نقيم عنده الفرق بين العصر الحجري، العصور الوسطى، والعصر الحاضر، عصر الحضارة، حيث سيادة القانون هي أكبر إنجازت بني البشر؟ أثير هذا التساؤل لأن عقلي منشغل به، وأفكر فيه كثيرا بين الحين والآخر. أريد أن أفهم دوافع تصرفات الثوار الليبيين الذين قبضوا على معمر القذافي وابنه المعتصم حيّين.. أريد أن أفهم ماذا يميز القرن الحادي والعشرين عن القرن الثامن عشر الذي شهد الثورة الفرنسية التي كانت ـ حسب كتب التاريخ ـ وحشية ودموية، وينتقدها المؤرخون كثيرا؟
كان التعذيب والإعدام واختفاء الناس أمرا شائعا في عهد الدكتاتور معمر القذافي الذي استمر 42 عاما، وكان كثير من الليبيين يكرهونه تماما ويرغبون في رؤيته مقتولا. رؤية احتفالات الحرية في ليبيا ونهاية عصور الظلام لهذا البلد أسعدت الجميع حول العالم، ولكن لم كان على هذا النصر أن يختم بالمشاهد المزعجة لجثة القذافي؟ الحقيقة هي أنه لم يقتل بقصف طائرات الناتو. كان واضحا من صور الفيديو التي التقطت على أحد أجهزة الجوال أنه حي يرزق، وكان يمشي على قدميه ويتكلم، وبعد ذلك بقليل ظهرت صور له بعد أن أطلقت عليه النار وهو مسجى على ظهر شاحنة صغيرة، والمقاتلون فرحون بمقتله، وهم يسحبون جثته في كل اتجاه. هل هذا ما نتوقعه من بشر يعيشون في القرن الحادي والعشرين؟
مع الأسف تكون الثورة عادة مصحوبة بالدم، لكن هناك خيط رفيع بين القتال والنجاح من أجل الحرية وبين الانتقام وتصفية الحسابات مع الأشخاص الذين لا نحبهم. بعض الناس، لأسباب مختلفة، قد يستخدمون فترة الفوضى للقضاء على أعدائهم ومنافسيهم السياسيين لأسباب شخصية أو لأسباب تتعلق بأسرار الدولة. بقدر ما فرح العالم بانتصار الشعب الليبي؛ شعر الكثيرون بالانزعاج عندما شاهدوا الصور البشعة للعقيد القذافي وهو مسجى بلا حراك في براد جزار في مصراتة، والناس يتفرجون عليه ويلتقطون الصور التذكارية مع الجثة، وحسب ما قالت الحكومة الانتقالية الليبية فإن الجثث بدأت تتعفن لأن باب البراد بقي مفتوحا. رأينا أشخاصا يوزعون كمامات على الناس قبل دخولهم مخزن الجزار، لأن جثتي القذافي وابنه بدأتا تصدران روائح كريهة. لم أصدق لأول وهلة أن القذافي قتل بهذه البساطة خلال الأسر، وأن الحكومة الانتقالية المسلمة سمحت بحدوث هذا الاعتداء على جثة إنسان من خلال السماح بتركها ليتفرج عليها الناس لمدة أيام. ربما كان القذافي مجرما، لكن هناك قانون لمعاقبة الناس. الليبيون وآخرون لهم الحق في التحقيق مع هذا الشخص بسبب أعماله ضد شعبه وضد الإنسانية، وقد سرقت هذه الفرصة من قبل شخص أو جماعة أمسكت به أولا.
كان الناس بحاجة لمحاكمته والحكم عليه وبعد ذلك معاقبته وفق القانون. مصير كثير من السياسيين السجناء الذين اختفوا خلال الـ30 سنة الماضية لم يعد من الممكن معرفته، وسيبقى سرا بسبب موت القذافي. الإمام موسى الصدر، مثلا، الذي زار ليبيا عام 1978 واختفى مع اثنين من رفاقه، ولا يزال سر اختفائهم مثل كثير من الأسرار، غير معروف، وسيبقى كذلك بسبب موت القذافي. رؤية جثته وعليها آثار الدماء على شاشات التلفزيون ذكرتني بالثورة الإيرانية عام 1979 التي كانت دموية مثل الثورة في ليبيا. قتل كثير من القادة العسكريين على يد فرق الموت بأوامر مباشرة من الخميني. رئيس الوزراء السابق أمير عباس قتل بنفس الطريقة التي قتل بها القذافي، في سجن قصر، وبعد محاكمة ثورية سريعة أجراها آية الله خلخالي، الذي أطلق عليه لقب جزار الثورة، حكم على أمير عباس بالموت ونفذ حكم الإعدام بإطلاق رصاصة على رأسه من الخلف. كنت طفلة لكنني لا أزال أذكر صورة جثته المغطاة بالدماء على صدر الصفحات الأولى للصحف. أمير عباس كان يحفظ أسرار وتاريخ أسرة بهلوي في صدره، لأن الثورة كانت بحاجة للدماء لإرواء عطش الناس الذين لم يكونوا يعرفون أن البداية الدموية ليست مؤشرا جيدا للثورة. كان من الأفضل أن يرى الإيرانيون رئيس الوزراء السابق وهو يخضع لمحاكمة عادلة ويتحدث عن الماضي ويجيب عن أسئلة كثيرة للتاريخ. الفرص سرقها من الإيرانيين بعض المتطرفين الذين ربما كانت مصلحتهم تقتضي قتل أمير عباس بسرعة وبلا ضجة. كان يعرف الكثير عن الكثيرين الذين أصبحوا ثوريين، وكانوا يعملون سرا مع استخبارات الشاه، ولذلك كانوا يخشون من محاكمة علنية لرئيس الوزراء السابق.
ماذا عن القذافي وابنه؟ هل تمت تصفيتهما بسرعة لأن بعض الأشخاص داخل ليبيا وبعض الحكومات الأجنبية كانوا يخشون من بقائه حيا؟ وبعد ذلك كان عرض جثته لعامة الناس لمجرد شفاء غليل بعض الناس الغاضبين الذين عانوا كثيرا خلال فترة حكمه؟! من المؤسف رؤية سعادة لا إنسانية نابعة من الاعتداء على جثة ميت. ولا يمكن للمرء إلا أن يقارن ما كان يمكن أن يستفيده الناس لو أنه دخل السجن وسمع الجميع دفاعه عن نفسه في محاكمة علنية، فربما كان لديه الكثير ليقوله.