كان الأب يصغي مشفقاً إلى خطاب ابنه اليومي، الذي يستعرض فيه أجندة برنامجه الممل ، والذي ينوء به كاهله، من حيث كثرة المحاضرات، والتي تتطلب جهداً وملكة للفهم

كان الأب يصغي مشفقاً إلى خطاب ابنه اليومي، الذي يستعرض فيه أجندة برنامجه الممل ، والذي ينوء به كاهله، من حيث كثرة المحاضرات، والتي تتطلب جهداً وملكة للفهم والحفظ، والاستيقاظ الصباحي الطافح بالضجر والوجع المكبوت، ثم المكابدة اليومية المتعاظمة من خلال مشواره اليومي عبر مركبته لكي يصل إلى الجامعة في الحي المقابل. أنصت والده بعمق لذلك الاحتجاج الحانق بكل ما فيه من نكوص وإحباط، وإملاءات سلبية معوقة ودلال كسول، ثم سأله: هل أروي لك حكاية قصيرة عن واحد من الأئمة الأربعة ؟ لترى ما فيها من معاناة وهموم وشغف معرفي، ومرارة قاسية، وصبر واحتساب وانقذاف في أتون التجارب القاسية إلى حدود الهلاك، ثم بدأ يقرأ عليه ما أورده سليمان فياض عن الإمام أحمد فقال:حج أحمد بن حنبل مع رفيقه في طلب العلم يحيى بن معين سنة 198 وكانا قد اتفقا على السفر بعد الحج إلى صنعاء، ليلتقياعبدالرازق بن همام وحين كانا يطوفان طواف القدوم، رأيا المحدث عبدالرازق يطوف، فتوجه إليه يحيى، وكان يعرفه وسلم عليه قائلاً له: هذا أحمد بن حنبل أخوك. فقال له عبدالرازق: حياه اللّه وثبته فإنه يبلغني عنه كل جميل. فقال له يحيى: نجيء إليك غداً إن شاء اللّه حتى نسمع منك ونكتب عنك. فلما انصرف عبدالرازق، قال أحمد ليحيى معترضاً: لم أخذت من الشيخ موعداً ؟ فقال له يحيى: لنسمع منه. قد أربحك اللّه مسيرة شهر، ورجوع شهر، وأراحك من النفقة. فقال له أحمد: ما كان اللّه ليراني وقد نويت نية أن أفسدها بما تقول. نمضي الآن فنسمع منه. ثم نمضي معه بعد الحج لنسمع منه بصنعاء. وفي سبيل الرحلة واجه أحمد العيش الخشن، والمركب الصعب. فقد نفدت نقوده بالطريق فعمل حمالاً بأجر للقافلة ، إلى أن بلغت القافلة صنعاء، وكان من معه يحاولون أن يمدوا له العون فكان يردها حامداً لله فضل قوته الذي يمكنه من أن يحصل بعرقه على نفقات الطريق. وفي صنعاء حاول المحدث عبدالرازق أن يعين ابن حنبل فقال له : يا أبا عبدالله خذ هذا الشيء فانتفع به؛ فإن أرضنا ليست بأرض متجر ولا مكسب ومد له بدنانير فقال أحمد : أنا بخير ومكث يعاني مشقة العيش، مرت سنتان بصنعاء استفاد فيهما فقد سمع من عبدالرازق أحاديث عن طريق الزهري وابن المسيب ما كان يعلمها من قبل. وظل يطوف في الأقاليم الإسلامية طالباً الحديث ، يحمل حقائب كتبه على ظهره ، ويسير على قدميه ، ويعمل ليكسب قوت أيامه في أسفاره وإقاماته مستهيناً بالمتاعب في طلب الحديث ولكثرة ما رواه وكتبه وحفظه من الأحاديث . قال له أحد عارفيه : يا أبا عبدالله أنت قد بلغت هذا المبلغ وأنت الآن إمام المسلمين فقال أحمد : مع المحبرة إلى المقبرة ، أنا أطلب العلم إلا أن أدخل القبر .