لماذا يتحرك الصينيون باتجاه الرأسمالية بعد أن ثاروا ثورتهم الأكبر من أجل الاشتراكية؟ ولماذا يتحرك الأمريكيون تجاه الاشتراكية بعد أن بنوا مجدهم العالمي على قواعد الرأسمالية؟
في مشهدين متزامنين من الشهر الحالي، يحتل آلاف الناشطين في الولايات المتحدة شارع (وول ستريت) برمزيّته الرأسمالية، فيما تشدد الصين في الوقت نفسه قبضتها الرقابية على شعبها خوفاً من تسلل نزعة الربيع العربي إلى البلاد. يطالب المحتجون في (وول ستريت) بتوزيع عادل للثروة، بما يعني تحريك نقطة المنتصف الاقتصادي ناحية الاشتراكية، ويطالب الصينيون - في الجانب الاقتصادي لمطالبهم العديدة - بتحرير الشركات الصينية العملاقة من ملكيّة الدولة وتخفيف قبضتها على وسائل الإنتاج، مما يعني تحريك نقطة المنتصف الاقتصادي تجاه الرأسمالية. هذان المشهدان المتزامنان لا يعنيان بطبيعة الحال أن هناك نقطة منتصف تصلح عندها جميع الأمور وتتحقق فيها العدالة المطلقة لأن نقطة المنتصف هذه غير معرّفة نظرياً. وهي لا تختلف من مجتمع إلى مجتمع فحسب بل من حقبة إلى حقبة أخرى من عمر المجتمع نفسه. فمطالب الصينيين التي تبدو مشروعة ومعقولة الآن لم تكن أبداً بمثل هذه الشرعية والمنطقية بعد قيام ثورة ماو عام 1949م، بل كانت مثل هذه المطالب في تصور الناس تعبّر عن رجعيّة ثقافية وارتداد نحو العصور الإقطاعية المظلمة في الزمن الذي كانت الاشتراكية فيه آيديولوجية طليعيّة وتقدّمية تتباهى بها الأقوام. أما محتجوا (وول ستريت)، فلعل مصيرهم لو أنهم أطلقوا حركتهم في منتصف القرن الماضي هو أن يؤخذوا جميعاً بشبهة الاشتراكية في الحقبة التي ساد فيها القانون (المكارثي) نسبة إلى السيناتور الأمريكي (جوزيف مكارثي) الذي حقن الأمة الأمريكية بحقنة الخوف من الاشتراكية حتى انقلبت على أبنائها وشعبها آنذاك قبل أن يوقف الكونغرس الأمريكي حملته ويسكت تحريضه.
لماذا يتحرك الصينيون باتجاه الرأسمالية بعد أن ثاروا ثورتهم الأكبر من أجل الاشتراكية؟ ولماذا يتحرك الأمريكيون تجاه الاشتراكية بعد أن بنوا مجدهم العالمي على قواعد الرأسمالية؟ برأيي أن السبب يكمن في الطبيعة المتحركة للمجتمعات البشرية. إن صلاحية الاشتراكية أو الرأسمالية للتطبيق الناجح في مجتمع ما مرهونة بالحالة التي كان عليها المجتمع آنذاك وثبات العوامل المؤثرة فيه اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، فمتى تغيّرت هذه العوامل تغيّر المجتمع وأصبحت إعادة النظر في توجهاته الاقتصادية واجبة. المشكلة أن المجتمعات تتغيّر بوتيرة مختلفة عن تلك التي تتغيّر من خلالها التوجهات الاقتصادية. الأولى تحدث بشكل طبيعي بالحد الأدنى من التدخلات الموّجهة والمقصودة، بينما الثانية تتطلب جهداً كبيراً لزحزحة بنى الثقيلة الاقتصاد في إطار تشريعي مرن يسمح بذلك. والحقيقة أن أغلب النظم التشريعية والسياسية والاقتصادية في دول كثيرة كانت قادرة على مواكبة تغيّرات مجتمعاتها وتطبيق النظام الاقتصادي الأقرب إلى تحقيق تطلعات المجتمع ورفاهيته. فسنغافورة في مرحلة البناء والنمو كانت أقرب إلى النموذج الاشتراكي من حيث سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج والتحكم حتى في التفاصيل الدقيقة للأسر السنغافورية مثل تحديد النسل، حتى إذا تحوّلت سنغافورة إلى دولة منتجة ومتقدمة تبنّت بشكل تدريجي توجهاً أكثر انفتاحاً على السوق ومنحت مواطنيها فرصاً أكثر حرية في حراكه المجتمعي والاقتصادي. ومن يتتبّع التشريعات الاقتصادية التي تتبنها البرلمانات الغربية خلال العقود الأربع الماضية يجد حداً معقولاً من التوافق بين التشريع المقترح والظروف الاجتماعية في حينها لاسيما في شمال أوروبا. غير أن هذه المزامنة ليست مهمة تزداد سهولة مع التمرس بل تزداد صعوبة مع تسارع وتيرة التغيير. فتغيير وجهة الاقتصاد عملية معقّدة تتطلب شجاعة سياسية يصعب إيجاد من يتحلى بها من القادة وحنكة تشريعية يصعب إيجاد من يتحلى بها من البرلمانيين. من يستطيع أن يقرر الآن ما إذا كان الأصلح لروسيا - في ظل الظروف الحالية - أن تمنن رأسمالياً أو تمسك اشتراكياً بغير حساب؟ لاسيما وأن رأسمالية روسيا الحالية جعلتها مسرحاً للفساد السياسي المالي المزدوج، بينما اشتراكيتها السابقة جعلتها آلة طغيان وتنكيل. من يستطيع أن يقرر ماذا يجب على البرازيل فعله في حقبة النمو وماذا يجب عليها فعله في ما بعد ذلك من تحقق التنمية؟ أسئلة صعبة على الكيانات الاقتصادية الكبرى التي يصعب تصحيح أخطائها إن هي أخطأت مثلما هي كذلك على الكيانات الاقتصادية الأصغر التي لا تملك تأثيراً ملموساً على الاقتصاد العالمي ولا تستطيع أن تتنبأ بتحركات الكبار.
في العقدين الأخيرين، أدّى الانفتاح التجاري والعولمة الاقتصادية وثورة المعلومات إلى تسريع وتيرة تغيّر المجتمعات بشكل لم يشهده التاريخ من قبل. في الحين نفسه، لم تستطع المؤسسات الحكومية المنوط بها مواكبة هذه التغيرات الاجتماعية أن تواكب هذا التغيير اقتصادياً. تقادمت مؤسسات (وول ستريت) مثلما ترهّلت وزارات الصين. اتسع البون بين تطلّعات الشعوب وبين ما يمكن أن تحققه لها حكوماتها. كيف يمكن لأمريكا أن (تشرك) الجماهير المحتجّة في ثروات الأغنياء والشركات دون أن تنفّر هذه الشركات فتهاجر إلى بلادٍ أقل ضرائب فينقلب السحر على الساحر؟ وكيف يمكن أن تتخلى الحكومة الصينية عن ملكية الشركات الصينية العملاقة دون أن يتسع الفارق بين الأغنياء والفقراء بشكل يهدد الكيان الاجتماعي وينذر باضطرابات شعبية؟
المظاهرات في الغرب والتذمر المتزايد في الصين هو احتجاج على الترهل الحكومي في لبّه بقدر ما يبدو احتجاجاً على سوء الأحوال المعيشية في ظاهره. الدول العظمى تملك قوة التأثير ولكنها حجمها الهائل يحرمها المرونة اللازمة، والدول الفقيرة لا تملك لا هذه ولا تلك. وبالتالي، فإن الدول القليلة التي ما زالت تملك القدرة والمرونة على مواكبة تطلعات مواطنيها اقتصادياً هي تلك الدول التي تنمو بشكل مضطرد مما يسمح لها بتعديل المسارات أثناء النمو قبل أن يكتمل البناء ويصعب إحداث التعديلات بعد ذلك، أو تلك الدول التي تملك ثروة كبيرة تحميها من عواقب اختيار المسار الخاطئ وتسمح له بتعديله دون أضرار مباشرة على المواطن.