تزييف الوعي بسيط ومركب، بسيط مع العامة، ومركب مع الخاصة.. وهل في الخاصة من وعيه مزيف؟! عجباً!.. كيف نعجب؟!.. وهل زيف الوعي عند العامة إلا من ذاك الوعي النخبوي المزيف!
(تزييف الوعي) كتب فيه مؤلفات كثيرة لا تنتهي، فما الذي سيضيفه هذا المقال العابر لهذه القضية؟! وما الفرق بين دولار حقيقي ودولار مزيف، إن أصبح الدولار مجرد ورقة بنكنوت لا تحمل دلالاتها القديمة فيما عرف برصيد الذهب الموازي؟!
ما دخل العملة في تزييف الوعي؟ الرابط بينهما فيما أريد الإشارة إليه، هو أن الوعي المزيف إذا طرح بالتراضي في وسط اجتماعي وذلك عبر سلطة ما، فإنه يكسب نفس الرصيد المقابل للوعي الحقيقي، والتراضي يعطيه شرعية تفوق الوعي الحقيقي الذي لم يحقق شرط الرضا، رغم أن الرضا قد يكون عن تغرير أو جهل أو إكراه مبطن.
هل تذكرون حكاية البئر التي تصيب من شرب منها بفقدان الذاكرة، وعندما شربت القرية من البئر وبقي اثنان من زعمائها تفاجآ أنهما مضطران للشرب من البئر ولو أدى ذلك لفقدان ذاكرتهما أيضاً، خوفاً على نفسيهما من تهمة الجنون التي تلحقهما من أهل القرية.
إن امتلاك الوعي الحقيقي يغلب عليه الإزاحة الاجتماعية، ليجد صاحب الوعي نفسه في منفى (البرج العاجي) مقر إقامته الجبرية، بينما العكس يحصل مثلاً لمن يملكون رصيداً من حكايا الخصوصية إذ تجد سوقاً لقصاصها يفوق سوق حكايا الغول والسعلاة، عدا القبول الاجتماعي ما داموا يتغنون وجماهيرهم المستمعة لهم بأنهم بشر خاصين ومختلفين عن شعوب الدنيا، فيكرروا على أنفسهم سذاجة الكتابيين من قبل عندما (قالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق) فهل من مدكر ليكرر على أسماعنا ألف باء الوعي الحقيقي بقوله تعالى (بل أنتم بشر ممن خلق) لعلنا نصاب بذلك التواضع الوجودي اللذيذ لمن عرفه وذاق حلاوته، وكيف يذوقه ويعرف حلاوته من عاش نازية فكرية امتزجت بدعوى دينية؟!
تزييف الوعي بسيط ومركب، بسيط مع العامة، ومركب مع الخاصة.. وهل في الخاصة من وعيه مزيف؟! عجبا!.. كيف نعجب؟!.. وهل زيف الوعي عند العامة إلا من ذاك الوعي النخبوي المزيف!.
إن النخبوي الذي يكون إفرازاًَ طبيعياً من مجتمعه، ليس إلا ديماغوجي يحترف تزويق الوعي المزيف، فيزداد جماهيرية، لدرجة تجعلك تسترجع حكاية شارل بودلير عن أولئك الذين يتشدقون باستمرار بكلمات مثل لا أخلاقي، لا أخلاقية ومسائل الأخلاق في الفن وغيرها يقول بودلير: إنهم يذكرونني بـ لويز فيلديو، مومس بخمسة فرنكات، رافقتني يوماً في زيارة إلى اللوفر، وكانت تلك أول مرة تزور فيها هذا المتحف، فاحمر وجهها وأخذت تغطيه بكفيها وتجذبني من كم السترة، متسائلة أمام اللوحات الخالدة، كيف أمكن عرض كل هذه العورات على عموم الناس.
إن النخبوي ليس إفرازاً طبيعياً من القطيع، بل هو استثناء وطفرة جينية بسلوك لا منتمٍ يؤكد دعاوى الفلاسفة في أن الأمم لا تنجب العظماء إلا مرغمة.
إذا نشأت في وطن وسافرت عنه، فإن كل ارتطام تواجهه في أرضك الجديدة ليس إلا وعياً مزيفاً كنت تظنه يملك سعر صرف في كل بلدان الدنيا ولكنك اكتشفت زيفه، فكل دعاوى الصدمة الحضارية لأي شعب من الشعوب ليست سوى ارتطامهم بزيف وعيهم الخاص الذي لقنوه إبان نشأتهم، وليس ارتطامهم بشيء خارج عنهم، إنه وعي عاشوه في وطنهم وقد اكتشفوا زيفه على محك التجربة وارتطام الواقع، وكل محاولاتهم للتماسك ليست سوى تخريجات مركبة لوعيهم البسيط في زيفه، فيعود البائس منهم وقد أصبح منظراً في النوع المركب من الوعي المزيف، أما النجباء فيعودون وقد امتلكوا ميلادهم الجديد ووعيهم الخاص الذي يجد له سعر صرف في كل بلاد الدنيا على اختلاف حضاراتها.. أديانها.. أعراقها..
تزييف الوعي عنوان عريض يستمرئه كل أصحاب النفوذ بأنواعه وأوله الديني؛ منذ الكنيسة الكاثوليكية التي نظمت نشر مذهبها عن طريق مجمع مقدس خاص سمي (DE PROPAGANDA FIDE) ومن اسم هذا المجمع اشتقت كلمة (بروباجندا) وعلى القارئ الكريم أن يتذكر اشتراطات اليمين/القسم لمن يدلي بشهادته عندما يتم اشتراط: قول الحقيقة... والحقيقة كاملة.... ولا شيء غير الحقيقة، فكم من شاهد زور في تاريخ إدارة وعينا لم يقل الحقيقة مطلقاً فكذب أو قال بعض الحقيقة فزيفها، أو خلطها بغير الحقيقة فزورها لتصب كلمات كل شاهدي الزور في نهر الدجل والخرافة، وما أكثر الشاربين الذين يؤذون العارفين ببخر أفواههم لكثرة الكرع، ويظنون أنهم يحسنون صنعاً، فيا أيها المارون بين الكلمات العابرة.. احملوا أسماءكم وانصرفوا.. واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا.. وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة.. واسرقوا ما شئتم من صور كي تعرفوا أنكم لن تعرفوا...... كدسوا أوهامكم في حفرة وانصرفوا.... كالغبار المر مروا أينما شئتم ولكن لا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة.. فلنا في أرضنا ما نعمل.. ولنا قمح نربيه ونسقيه ندى أجسادنا.... اخرجوا من مفردات الذاكرة.. أيها المارون بين الكلمات العابرة
تزييف الوعي جرم في حق المدارك الإنسانية، وزيف الوعي بؤس لا يسلم منه بيت خاصة ولا عامة، وامتلاك الوعي الحقيقي ورطة وجودية بحق الفرد، وثورة راديكالية بحق المجموع، ويوتوبيا بحق المستقبل.