كان من المتوقع أن تتراجع الشائعات مع الانتشار الرهيب لوسائل الاتصال، ولكن الواقع بين أن الشائعات تتزايد، بل وتستفيد من وسائل الاتصال في الانتشار
يعد محمد بن الحسين بن موسى الملقب بالشريف الرضي من فحول شعراء القرن الرابع الهجري، ويُذكر من فضائله؛ أنه مفخرة من المفاخر، وإمام من أئمة الحديث والأدب، وبطل من أبطال الدين والعلم، وأولاً في كل ما ورثه عن سلفه من علمٍ متدفق، ونفسيات زاكية، وأنظار ثاقبة. له مجموعة أعمال علمية مشهورة، منها ديوان شعري تغلب فيه القوة والعذوبة والجزالة، وتضمن كثيراً من الغزل العذري والاجتماعيات. من أحلى أبيات الشريف الرضي المشهورة قوله:
وهم نقلوا عنّي الذي لم أَفُه به وما آفَةُ الأَخبار إلا رُواتُها.
هذا البيت يتسلى به الناس الذين يصادفون في حياتهم كثيراً ممن يهذي ويهرف بكل ما يعرف، وما لا يعرف، معتمداً على ما عنده من معلومات شخصية ونقول سماعية، وتقييدات مكتوبة ليست بالضرورة أن تكون صحيحة. ومن ذلك من يكتب عن الدين ما ليس منه، وعن الوطن ما ليس فيه، وعن أناس ما ليس فيهم، ومن يخلط بين علياء القوم وأخلاطهم ـ الأخلاط عكس العلياء ـ ومن يشيع الشائعات.. والآفة كما ذكرت تأتي عندما يتلقى المتلقي ما قيل، فيظن بسذاجته أن النقل صحيحٌ، والجمع دقيق.
من أهم الوصايا الشرعية، الوصية بالتثبت والتبين والتبصر في النقل، وذلك بالتحقق والأناة وعدم العجلة. قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ بئس مطية الرجل زعموا رواه أبو داود وأحمد. يقول الإمام الخطابي في كتابه (معالم السنن ـ شرح سنن أبي داوود 4/130): إنما يقال زعموا في حديث بلا سند ولا يثبت، إنما هو شيء يحكى على الألسن على سبيل البلاغ، فذم ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الحديث ما كان هذا سبيله، وأمر بالتثبت فيه والتوثق فيما يحكيه، فلا يرويه حتى يكون معزواً إلى ثبت ومروياً عن ثقة. وقال الشيخ ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة النبوية 2/ 413): .. ومن أراد أن ينقل مقالةً عن طائفةٍ فليسم القائل والناقل، وإلا فكل أحد يقدر على الكذب...
في ثنايا مقالي ذكرت الشائعات، والحقيقة العلمية تؤكد أن (علم نفس الشائعات) تمت صياغته كعلم أثناء الحرب العالمية الثانية، عقب ما لوحظ من أهمية بالغة للشائعة والشائعة المضادة، في التأثير على المعنويات والأفكار والاتجاهات والمشاعر والسلوك، وبالذات أثناء الأزمات والظروف الضاغطة، والمثيرة للقلق، والمصائب على مختلف أنواعها الاقتصادية والعائلية والاجتماعية. كما لوحظ انتشارها في ظل وجود تعتيم أو غموض، وتكللت الجهود بتأليف كتاب علم نفس الشائعة (Psychology of Rumor) عام 1945.
نظرياً يقول الأستاذ محمد أحمد النابلسي في كتابه (سيكولوجية الشائعة): كان من المتوقع أن تتراجع الشائعات مع هذا الانتشار الرهيب لوسائل الاتصال، ولكن الواقع بين أن الشائعات تتزايد باستمرار، بل وتستفيد من وسائل الاتصال في الانتشار.. ويبدو أن التزايد والانتشار عائدان إلى الميل إلى تزييف الحقائق أو إخفاء أجزاء منها، ورغبة الناس في معرفة المزيد وانفتاح شهيتهم لارتياد رؤى مجهولة.
الشائعات لها مجالات كالتاريخ وغيره، ولها دوافع، وشروط نجاح، وأنواع، وأشكال، أما مقاومتها فليس إلا اليقظة وتوفير المعلومات والتثقيف وإشاعة فضل قيمة الصدق.
خاتمة:
من غرر الإمام الحافظ ابن المفضل المقدسي من علماء القرن السادس الهجري:
تصدر للتدريس كل مهوس
بليد تسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا
ببيت قديمٍ شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها
كلاها وحتى سامها كل مفلس