الحضور القوي لإيران في العراق وتحالفها مع المالكي جعله قوياً بما يكفي، لكي لا يعبأ كثيراً بالمعاهدات والتحالفات التي أبرمها مع حلفائه الاستراتيجيين وشركائه في الحكومة، ولا يقيم وزناً لتعهداته ووعوده التي قطعها لهم

كل من تابع فكر رئيس الوزراء العراقي المالكي يدرك أنه سياسي على الطريقة الميكافيلية من الطراز الأول، مناور ممتاز، لا أحد من السياسيين العراقيين يبزه في هذا المجال، يعرف كيف يناور ومتى يصعد الموقف إلى أقصى مدياته أو ينزله إلى أدنى مستوياته، إن علم فيه مصلحة لقضيته الشخصية و مآربه السياسية، محظوظ، لم يخدم الحظ أحداً من السياسيين العراقيين أكثر مما خدمه، لمع نجمه بسرعة الصاروخ، صعد من مجرد عضو في حزب الدعوة تحت قيادة زعيمه إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء السابق الذي فقد منصبه وانطفأ بريقه السياسي إلى الأبد بسبب مؤامراته ودسائسه الخفية على القضية الكردية، أو هكذا قيل، الأمر الذي دفع بالائتلاف الكردستاني أن يتحالف مع الآخرين لإسقاط حكومته، وبسقوط الجعفري ارتفع رصيد المالكي السياسي إلى أن وصل إلى مصاف الرؤساء والقادة الكبار، الذين عادة ما يطلق عليهم لقب الفخامة و السعادة و السيادة وتربع على عرش العراق بدعم مباشر من الأكراد، على شرط أن يطبق الدستور بحذافيره، ويعالج المشاكل العالقة بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان، وبخاصة المادة 140 التي تعالج مشكلة الأراضي المتنازع عليها بين القوميات الثلاث، العرب والكرد والتركمان. وافق الرجل فوراً من دون تردد، وأقسم بأغلظ الأيمان أن يكون أميناً على الدستور و مطبقاً لبنوده، وراعياً لحقوق المواطنين و.. لكن ما إن أصبح رئيساً للوزراء وقائداً عاماً للقوات المسلحة ووزيراً للدفاع والداخلية ووزيراً للأمن الوطني ومديراً للمخابرات العامة، وخضّع هيئة النزاهة لإدارته بعد أن أجبر رئيسها القاضي رحيم العكيلي على الاستقالة، وكذلك حاول الإطاحة بمحافظ البنك المركزي العراقي سنان الشبيبيو رئيس المفوضية العليا المستقلة للانتخابات فرج الحيدري تمهيداً لإلحاق هاتين المؤسستين الهامتين بمكتبه والإشراف عليهما بنفسه، وبعد أن جمع كل هذه المناصب الرفيعة في يده، ووصل إلى ما لم يصل إليه صدام حسين وهو في عز حكمه وسلطانه؛ قلب ظهر المجن لكل من ساعده في الوصول إلى النعمة التي هو فيها، وانقلب عليهم، وأولهم رفقاء دربه وأصدقاؤه في الحزب والمذهب، فبعد أن استولى على حزب الدعوة وأرغم زعيمه إبراهيم الجعفري على تشكيل حزب آخر وهو حزب (تيار الإصلاح الوطني) التفت إلى قادة المجلس الأعلى الإسلامي بزعامة عمار الحكيم وأحكم عليهم قبضته، وأبعدهم عن الأضواء السياسية، وآخر هؤلاء عادل عبدالمهدي نائب رئيس الجمهورية السابق، الذي أجبره بطريقة ما على الاستقالة بحجة ترشيق الحكومة لصالح أحد أصدقائه المقربين ومن قياديي حزبه وهو خضير الخزاعي، كما حاول المالكي جاهداً الحد من خطر مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري وإبعاده عن المسرح السياسي، فدخل معه في حرب ضروس سماها صولة الفرسان وقتل من أنصاره الكثير، وما إن أظهرت نتائج الانتخابات التشريعية لعام 7/3/2010 فوز القائمة العراقية، واستعد زعيمها إياد علاوي لتولي السلطة ولم يبق غير الاحتفال بهذه المناسبة؛ فإذا بـالمالكي يرفض نتائج الانتخابات جملة وتفصيلاً وسط دهشة العالم، ويصر على أنه هو الأحق والأجدر بتشكيل الحكومة، وإزاء إصراره العجيب على تحدي الشرعية واستمراره في توظيب المؤامرات وتزوير الحقائق، وإدخال البلاد في دوامة سياسية لمدة تزيد عن ثمانية أشهر، بتدبير وتخطيط مباشر من إيران التي أوعزت إلى حليفها مقتدى الصدر بدعمه ومساندته على الرغم من العداوة الشديدة التي يكنها له؛ رضخت الكتل السياسية الرئيسة في البلاد لصالحه، واضطرت لتكليفه بتشكيل حكومة شراكة وطنية لفترة ثانية.
الحضور القوي لإيران في العراق وتحالفها مع المالكي جعله قوياً بما يكفي، لكي لا يعبأ كثيراً بالمعاهدات والتحالفات التي أبرمها مع حلفائه الإستراتيجيين وشركائه السياسيين في الحكومة، ولا يقيم وزناً لتعهداته ووعوده التي قطعها لهم، وعلى رأس هؤلاء التحالف الكردستاني الذي وصف بأنه الحيطة المايلة للمالكي، فكلما تشتد عليه أزمة ويعجز عن مواجهتها يجد نفسه مضطراً لطلب المساعدة منه بكلام معسول ووعود سخية، ولكن ما إن يتحسن موقفه السياسي في الداخل ويتلقى الدعم من الخارج إلا وسرعان ما يتنصل من وعوده، ويبدأ بالعودة ثانية لنفس سياسته القديمة، وهكذا يفعل مع كل خصومه وأصدقائه على حد سواء. وقد تنبأ بعض القادة العراقيين لخطر هذه السياسة التي ينتهجها المالكي على البلاد، و طالبوا الشعب والسياسيين إلى التصدي لها، وقد وصفه النائب (فتاح الشيخ)عن القائمة العراقية بأنه أصبح في وضع خطر جداً، كلما يتقرب أحد لتطبيق القانون الذي يدعيه يحاول اعتقاله أو تصفيته سياسياً أو جسدياً كما فعل مع الفنان الصحفي والمخرج المسرحي هادي المهدي الذي اغتالته الأجهزة القمعية التابعة للدولة بسبب نشاطه في مجال تنظيم المظاهرات في بغداد. ولم تكن الصرخة التي أطلقها زعيم حزب الأمة والنائب السابق مثال الآلوسي إلى كافة القوى الوطنية المشاركة في الحكومة إلى إسقاط حكومة رئيس الوزراء المالكي من أجل ما وصفه حماية لوحدة الوطن وأمن وسلامة وكرامة المواطنين أول صرخة ولن تكون آخرها.