بفعل الزخم الهائل من المعلومات التي يتلقاها أفراد المجتمع أصبحت المجالس المجتمعية واجهة للإعلام الموازي، يتم طرح الحوارات كردة فعل واستجابة للمثيرات التي تطرح في وسائل الإعلام الموازية
سرّعت وسائل الإعلام والاتصال الحديثة نقل الخبرات والمعلومات والمنجزات الحضارية أكثر من أي وسيلة أخرى. ولكن لسنوات طويلة ظل الإعلام العالمي محكوماً بالرقابة الحكومية، إلى أن حصل التقدم الكبير في الحريات والديموقراطية التي أفرزتها صورة الدولة الحديثة، فأصبح الإعلام حراً إلى حد كبير، ولكن في العالم العربي ظل الأمر مرهوناً بعوامل التوجيه والاحتكار والرقابة والتوجس، إلى بداية تسعينيات القرن الماضي حيث فجرت الآلة الحضارية العالمية ـ المسماة بالعولمة ـ أولى نتائجها، وهي جعل الكرة الأرضية أشبه بقرية يعرف سكانها بعضهم البعض ويتواصلون عن قرب، وتظهر مجمل علاقاتهم مباشرة على السطح.
قلل هذا الأمر من أهمية الرقابة من جهة، وأثر وسائل الإعلام الرسمية من جهة أخرى، ولذلك نجد اليوم أن تأثير وسائل الإعلام الموازي (الجديد/البديل) أصبح أكثر قوة وسرعة في الوقت ذاته. فالمسكوت عنه في وسائل الإعلام الرسمية بات يناقش بهامش واسع في الإعلام الموازي، ولو عدنا بالذاكرة إلى الوراء قليلاً لوجدنا أن حوادث كثيرة محركها الرئيس الإعلام الموازي المستفيد كثيراً من الفضاء الرقمي المفتوح.
انتشر قبل أيام مقطع مصور لأمين منطقة عسير يتحدث إلى مواطن، وفي أوج الحديث طلب من المواطن أن يذهب لأن وقته انتهى قائلاً: توكل على الله! هذا المقطع انتشر بسرعة فائقة في مواقع التواصل الاجتماعي، ومعظم المواقع الإلكترونية، وما أتناوله هنا ليس صواب أو خطأ الموقف لأحد الطرفين، فمثل هذا الموقف كثيراً ما يحصل من بعض المسؤولين، وربما يقابله أيضاً بعض التوتر من قبل المواطن الذي يقف في الطرف الآخر أمام المسؤول. وما أريد التركيز عليه هو توثيق الحالة أولاً، ثم تداولها ثانياً. وباختصار شديد القول إن وسائل الإعلام الموازي أصبحت الآن في متناول أيدي الأفراد، إن لم تكن في جيوبهم، فكل يحمل في جيبه آلة إعلامية. أما تداول المقطع فهو المثير الذي ولّد استجابة سريعة وغاضبة لدى كثير من أفراد المجتمع بسبب التصرف ـ الذي يعتبرونه لامسؤولاً ـ للمسؤول، فمعظم الردود والتعليقات على المقطع/الحدث، توحي بارتفاع وتيرة وعي المجتمع بحقوقه، واستهجانه لمثل هذا التصرف، باعتبار أن المسؤول في خدمة المواطن مهما يكن الأمر، ومن أهم حقوقه عليه أن يستمع إليه لا أن يعامله على أنه خارج القانون.
ووسائل الإعلام الموازي لا تحتاج إلى كلفة مالية كبيرة، والنشر الإعلامي لا يحتاج إلى إذن من أحد، بقدر ما يحتاج من الإعلام الرسمي أن يجاريه ويلحق به، إذ أصبح التابع متبوعاً كما يقال، فوسائل الإعلام الرسمية ثقيلة الخطى، تحاول دائماً اللحاق بوسائل الإعلام الحرة في المجال الموازي، بل تعتمد عليها في كثير من الأحيان في مصدرية الخبر، وخاصة تلك التي تهتم بالشأن الاجتماعي. وعلى الأرجح أن الإعلام الموازي سيتطور دوره ليكون أشبه بالرقيب الاجتماعي على تصرفات المسؤول.
ويعد الإعلام الموازي -عربيا- الصوت الحقيقي لمن لا صوت له، في ظل صعوبة إحكام السيطرة عليه بعيداً عن توظيف القانون للحد من حرية التعبير، وهذا ما جعل النخب الثقافية العربية تتجه نحو هذه الوسيلة السحرية، فبعض من يحظى بعمود صحفي قد يكتب فيه مقالاً رتيباً ومملاً، لكنه في موقع آخر يعبر عن نفسه بشكل أفضل وأكثر حرية واتزاناً. وهذا ربما من الأسباب التي سوف تسهم مجدداً بإضعاف وسائل الإعلام الرسمية، من خلال ضعف الإقبال عليها لعدم استطاعتها مواكبة هامش حرية الإعلام الموازي الواسع والمتسع باستمرار، فبعد أن كان الفرد يكتفي بالتلقي أصبح بإمكانه الآن أن يشارك في الرأي من خلال وسائط ووسائل الإعلام المتعددة، وأقلها برامج المحادثات على الهواتف المحمولة التي تنشر الكثير من المقالات والمقاطع والأخبار وحتى النكت والطرائف، التي أضحت بمجملها وسيلة للتعبير عن الذات الشعبية، ومن خلال هذه الوسائط تنمو معرفة جديدة ومختلفة عن السائد، قاسمها المشترك هو الوعي، وخاصة الوعي بالحقوق الإنسانية التي يأتي في مقدمتها حق التعبير.
وبفعل الزخم الهائل من المعلومات التي يتلقاها أفراد المجتمع، أصبحت المجالس المجتمعية واجهة لهذا الإعلام. يتم طرح الحوارات كردة فعل واستجابة للمثيرات التي تطرح في وسائل الإعلام الموازية، حتى بات لهذه المثيرات تأثير ثقافي واجتماعي في التواصل والاتصال والعلاقات الاجتماعية، التي هي بطبيعة الحال انعكاس لما يتم في العالم الافتراضي إن جاز التعبير، فالشفافية في الإعلام الرسمي مازالت محدودة، إلا أنه مقابل ذلك هناك وعي بآثار الإعلام وتأثيره، فالممارسات الإعلامية تتحول بالتدريج إلى سلوك اجتماعي عام، وإذا ما أردنا أن نجير هذا الأثر للصالح الاجتماعي فعلينا التعامل مع الإعلام الموازي على أساس أنه رافد ثقافي مهم يسهم في إثراء المتكسبات الثقافية والاجتماعية والوطنية، وأن كل محاولات التأثير على هذا الرافد سلبياً سوف تأتي بنتائج سلبية. وخاصة أن الأموال الطائلة في إنشاء وسائل إعلامية قد تكون تجارة فاشلة مستقبلاً، لأن إنشاء قناة على موقع مثل يوتيوب لا يكلف شيئاً، وإنشاء حساب على تويتر وفيسبوك مازال مجانياً.. والخلاصة تقودنا إلى أن الإعلام الموازي يتضخم حجمه وتزيد تأثيراته، ليصبح بمثابة رقيب اجتماعي، وفي المقابل تضعف المتابعة الشعبية والثقة بالإعلام الرسمي في ظل عدم احترافيته وعنايته بالتغيرات الاجتماعية من حولنا.