مفهوم السلطة لدى ميشيل فوكو ليست هي الأنظمة السياسية ومؤسسات الدولة فقط، وإنما كل العلاقات المعرفية والخطابية بين القوى الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها

تتشكل الخطابات الثقافية بفعل التاريخ والتراكم التاريخي، وهذا التراكم يفعل فعله الثقافي في البنيات الفكرية لدى المجتمعات الإنسانية جمعاء فيما بعد لتتأسس مجمل الأفكار؛ بل تفاصيل الحياة اليومية للإنسان. هكذا تتبلور جميع المعارف بمجموعها في الفكر الإنساني؛ إذ تصبح لحظات التكوين الفكري فيما بعد سلطة معرفية يصعب على أكثر الشعوب والأفكار تجاوزها أو نقضها بحكم هيمنتها المعرفية التي تولّدت بحكم الزمن وبفعل الفكر الإنساني نفسه.
إن الفكر يتداخل مع الواقع تداخلاً كبيراً بحيث يصبح أحد الأسس في صياغة الأفكار في حال التتبع التاريخي للتطور الفكري، كما أن الذات الفكرية الفاعلة لا يمكن لها أن تتعالى على هذه الواقعية في تشكيل خطابها الفكري. إن الخطاب الثقافي (أي خطاب) يتموضع وفق ثنائية الذات والموضوع، أو ثنائية الذات الفاعلة والذوات المفعولة، أو بصيغة أخرى الخطاب والتاريخ، وبشكل عام، فإن هذه الثنائيات لم تعد ثنائيات متقابلة يمكن فرزها في تشكل الخطاب بقدر ما أنها تمثل جوهراً فكرياً واحداً ـ إذا صح استعارة مفهوم الجوهر للفكر ـ.
بواقع الحال.. يتحوّل التشكل المعرفي مع الوقت ليجعل من المعرفة نفسها ذات بعد سلطوي، أي أن المعرفة خاضعة في شكل من أشكالها إلى خطاب القوة، بمعنى أن المعرفة لا يمكن أن تأخذ حقيقتها إلا من خلال قوة فارضة تمنحها حقيقة مطلقة رغم تشكلها التاريخي، كما أن المعرفة تتحول لتكون هي ذاتها سلطة تؤسس إلى سلطة أخرى، ولذلك تتوالد السلطات المعرفية لتعطي الهيمنة الثقافية لخطاب دون خطاب، أو تقوّض خطابا من أجل بناء قوة معرفية لخطاب آخر. إن إرادة القوة كما عند نيتشه، تخلق البنيات المعرفية لتأسيس الهيمنة. يقول نيتشه: إن منهج الحقيقة لم يوضع بدافع الحقيقة، وإنما من أجل دوافع القوة والهيمنة(عبدالسلام بن عبدالعالي: أسس الفكر الفلسفي المعاصر. ص 146)، وهنا تصبح الخطابات المعرفية خطابات لفرض الهيمنة، وليست خطابات الحقيقة نفسها، إذ إن الحقيقة تصبح هي حقيقة الخطاب، وليس من اللازم أنها تجسد الحقيقة المطلقة.
إن الحقيقة تتشكل وفق الخطاب، والخطاب يتشكل وفق اللغة، ولذلك فإن اللغة خاضعة دائما لنوع من التأويل المستمر لفرض الهيمنة، ومن هنا فإن كل ما هو موجود مجاز لغوي يتم تأويله، أو تأويل ما هو مؤول من خلال توليد مستمر للمعنى وللقيمة، والذي هو حسب الرؤية النيتشوية توليد للقوة والهيمنة.
ميشيل فوكو يأخذ هذه الرؤية إلى أبعد مداها حيث الواقع هو من إنتاج السلطة. طبعا مفهوم السلطة لدى ميشيل فوكو ليست هي الأنظمة السياسية ومؤسسات الدولة فقط، وإنما كل العلاقات المعرفية والخطابية بين القوى الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، التي تولد المعاني. ولذلك فإن ميشيل فوكو يعمل على حفريات معرفية لتشكل الخطابات ونقدها، وهي خطابات فعلت فعلها في الواقع من خلال السلطة، والتي هي بدورها فعل التاريخ. يقول ميشيل فوكو: لا ينبغي البحث عنها (أي السلطة) عند نقطة مركزية تكون هي الأصل... وإنما ينبغي رصدها عند القاعدة المتحركة لعلاقات القوى التي تولّد دونما انقطاع، وبفعل عدم التكافؤ بينها، حالات للسلطة... السلطة حاضرة في كل مكان... لأنها تتولّد كل لحظة عند كل نقطة، أو بالأولى، في علاقة نقطة بأخرى... (م فوكو: جينالوجيا المعرفة ص 106 بتصرف) ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني أن السلطة تولد نفسها في بنية الأفكار، وفي تفاصيل كل العلاقات الإنسانية والاجتماعية الحاضرة منذ التاريخ في السلوك الإنساني.. هل تراني أعمل هنا على تأويل كلام فوكو؟ إذا كان كذلك، فأنا هنا أؤسس لسلطة معرفية سبق وعمل فوكو على نقضها لدى الخطابات المعرفية حتى لدى التاريخ، حتى ذلك المهمش منه كما هو تاريخ الجنون.
ماذا أريد أن أقول من هذا الكلام كله؟ الذي أريده هو أن أوضّح أن الخطابات الثقافية أيا كانت: علمية أو تقليدية وسواء تموضعت وفق إطارات سياسية أو دينية أو علمانية محددة، لا تصنع إلا حقيقتها الخاصة، والتي ليست بالضرورة هي الحقيقة المطلقة، إذ لا وجود هنا إلا للتأويل اللغوي لمعاني وقيم فرضتها الهيمنة الثقافية لخطاب على الخطابات الأخرى.
إن الخطابات الثقافية التي لها وجودها الفعلي على أرض الواقع ليست إلا خطابات تاريخية، ولا يعني وجودها صلاحيتها التاريخية أو امتلاكها الحقيقة بقدر ما أن المسألة راجعة إلى النتيجة الفعلية التي تتبلور من خلال المصلحة، حتى ولو كانت أقرب إلى الوهم منها إلى حقيقة متجسدة. الوهم أحياناً يحقق مكسباً ماديا للإنسان لذلك نجد من يتمسك به حتى ولو من أجل التوازن النفسي على الأقل أو الإحساس بالقيمة والمعنى من الوجود.
الخطاب الثقافي الذي يفرض نفسه على الناس يفرض حقيقته حتى تصبح هذه الحقيقة أقرب إلى المسلمة، ولذلك نجد التماهي المطلق مع قيم تاريخية ليس لها قيمة معاصرة. المسلمات في الأصل هي مسلمات الخطابات الثقافية وليست من الضروري أنها مسلمات فعلية، ولذلك فهي تنهار عند الشك المعرفي. في العقل العلمي انهارت الكثير من النظريات لأنها تشكلت وفق رؤية خطابية معينة، ومع التطور المعرفي لم تعد من المسلمات، وكذلك الحال في جميع الخطابات الأخرى التقليدية، وعلى هذا الأساس يصبح نقد وتقويض الخطابات المعرفية أهم القضايا التي لا بد أن يعمل عليها الفكر النقدي لأنها خطابات للهيمنة، وليست للحقيقة.