التقنية تعلم وتدرب وتتفاعل مع الطلاب، دون أمزجة معكرة، ودون نعرات قبلية ومناطقية. ولذلك فإن المستقبل الكمي والنوعي هو للتعليم الإلكتروني سواء في التعليم العام أو التعليم العالي
من الضرورة أن تحرق المراكب التي عبرتَ بها إلى الضفة المقابلة، فتركها راسية يغري ويحرض أحيانا على التراجع عن القرارات الصعبة والمهمة. فالقرارات التي تتخذ حين تكون السماء صافية والطقس صحوا، تحتاج إلى تحصينات لما بعد الصفاء والصحو.
فمنذ دعانا شاعرُنا أحمد شوقي للقيام تبجيلاً وتعظيماً للمعلم، ونحن نهيم برومانسية المفاهيم ونعيش نشوة المصطلحات، فلم نستطع أن نفهم ما إذا كان التبجيل اللائق هو لشخص المعلم أم لعلمه وأخلاقه أم لقدوته الحسنة. ولم نفهم هل يجوز تربوياً وحقوقياً أن يبجل الطالبُ المعلمَ ويعظمَه لعملٍ تفرضُه عليه مهنتُه وتحتمُه عليه القوانين والأنظمة ويتقاضى عليه أجرا؟
ومع كل عصر جديد، تولد مهن وتنقرض أخرى، ومهنة التعليم ليست استثناء. لقد انقرضت مهنة التعليم بالفعل تربوياً، وبقيت وظيفيا واجتماعيا. فهي لا تزال موجودة رسميا كتصنيف وظيفي في سجلات التصنيف الوظيفي، وهي كذلك لا تزال موجودة في عقل المجتمع بما فيه من طلاب ومعلمين، وفي الحقيقة تعد مهنة المعلم من أكثر المهن التي تآكلت أطرافها وتشظت ذاتُها ومهامُها وتراجع تأثيرُها وبريقُها وأهميتُها، إلا أنها بقيت عنواناً مفرغا وفزاعةً اجتماعية وثقافية في الجهاز التربوي.
تمنيت لو أن وزارة التربية والتعليم أعلنت أن العام هو عام الطالب، بدلا من عام المعلم. فالطالب وليس المعلم هو قطب الرحى في العملية التعليمية والتربوية. والطالب هو من يحتاج إلى أن يكون محور اهتمام المؤسسة التربوية وشغلها الشاغل. والطالب هو المخرج النهائي والهدف النهائي لكل ما تقوم به هذه المؤسسة.
لست أتحامل على المعلم، وأعرف أن للمعلم حقوقا، لكننا لم ندرك حقيقة أننا في عصر المعرفة، الذي يقتضي طقوسا وبروتوكولا مختلفا عن تلك التي يكون بها الطالب متلقيا سلبيا والمعلم يحفظ ويسمع الطلاب ما حفظه منذ عشرات السنين، والمعرفة ليست تعبئة كراس التحضير بشكل روتيني أو شراءه من المعلبات الجاهزة.. والمعرفة تتناقض مع تكرار المعلم لمادته، وتتنافى مع تبلد المتلقي، وحشوه بالفتات البايت من معلومات تقادمت وانتهت صلاحيتها.
المعرفة تتطلب أن يكون الطالب وليس المعلم هو من يقوم تعليمه بنفسه مع ضرورة وجود ميسر للتقنية والمادة العلمية.
تمنيت لو أن وزارة التربية والتعليم وزعت على جميع طلابها وطالباتها أجهزة المحمول وأجهزة بلاك بيري ووفرت خدمة الإنترنت، وحملت تلك الأجهزة بمواده المقررة وتطبيقاتها حسب كل مرحلة، ليقود الطالب تعليمه بنفسه، مع ضرورة وجود ميسر للتقنية والمواد ليشرح ما يشكل على الطالب.
إنها أفلام الكرتون التي علمت أطفالنا لغة سليمة وليس المعلم، إنها الألعاب الإلكترونية التي علمت أطفالنا الرياضيات، وليس المعلم، إنها الدردشة الإلكترونية التي علمت أطفالنا الكتابة بطلاقة وليس أن تكتب عن يوم ممطر أو رحلة إلى البر. هي التقنية التي أطلقت العنان لخيال أطفالنا بالرسم والتعبير وتوسيع المدارك والأفق، وليسوا المعلمين. ويجب ألا نأخذ موقف الضد من تلك التقنية الحديثة. علينا أن نوظف تلك التقنية وأن نستثمرها في خدمة العملية التعليمية. حتى البلاك بيري والفيس بوك، أرى ضرورة أن توظف في بناء مجموعات دراسية، بين كل مجموعة من الطلاب في المستوى الدراسي الواحد على مستوى المملكة، وليس فقط على مستوى المدرسة. فما الخطأ في إيجاد مجموعة صداقة ونقاش من طلاب الأول ثانوي على مستوى المملكة في الفيس بوك أو البلاك بيري؟
إنه المعلم وليست التقنية من خرب اللغة السليمة التي تعلمها الأطفال من تلك الأفلام، وهو من أغلق أفق الطالب، وثبط عزيمته، وجفف إبداعاته، وروض قدراته وحطمه وأوصله إلى حالة اليأس والتذمر من المدرسة والدراسة.
إن التقنية تعلم وتدرب وتتفاعل مع الطلاب، بدون أمزجة معكرة، وبدون نعرات قبلية ومناطقية. ولذلك فإن المستقبل الكمي والنوعي هو للتعليم الإلكتروني سواء في التعليم العام أو التعليم العالي.
ومن هنا أقترح على وزارة التربية والتعليم، وأعرف مدى حرص واهتمام مسؤوليها بالنهوض بمستوى التعليم، أقترح أن تطلق هذه الوزارة برنامجا شاملا لإعادة تأهيل من يصلح من المعلمين الحاليين بعد اجتياز اختبار ليكونوا ميسرين للعملية التعليمية وليسوا معلمين وتحويلهم إلى ميسرين ومساعدين للطلاب. وهذا سيتيح للوزارة القضاء نهائيا على الأمية، وسيعينها على النقص في بعض التخصصات، وسيساعدها على خلق جيل خالٍ من التشوهات والعقد والترسبات الاجتماعية المريضة، وسيخلص الوزارة من المنهج الخفي، وسيتيح لوزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي فرصة كبيرة في بناء المسارات التعليمية على أساس واضح.
ليس خطأ أن تنقرض مهنة المعلم كغيرها من المهن التي استنفدت الغرض منها، ففي رأيي أن الاستثمار بالمعلم هو هدر للوقت والمال والجهد وهدر للأجيال القادمة، لأن هذا المعلم هو نتاج لطريقة تعليمية في السابق لا تمت لعصر المعرفة في شيء، ولا ننتظر من المعلم أن يأتي بخلاف ما تعلم حين كان على كرسي الدراسة، ففاقد الشيء لا يعطيه. تلك دوامة لا بد من وقفها ولا بد من إلغاء مسمى معلم وتصفية مهنة المعلم وإسدال الستار عليها إلى الأبد. وإن الأفضل والأجدى عوضا عنها، الاستثمار بالتقنية الحديثة بأوسع ما فيها من إمكانات مع ميسرين للمواد ومساعدين للطلاب خدمة للأجيال القادمة.