يُحكى أن الحق والزور كانا يسيران معاً في طريق طويل أو مقمر كما في أغنية أم كلثوم الشهيرة، وفجأة شعر الزور بالتعب فقال للحق: لقد تعبت يا عزيزي الحق، هل تسمح لي أن أركبك؟! فغضب الحق وصرخ في وجه الزور: هل جننت؟ أنا الحق.. أنا من يعلو وإن كان ولا بد فأنا الأجدر بالركوب، فرد عليه الزور: حسناً لنتحاكم إلى البشر في القرية القادمة، وحين وصلا إلى القرية وجدا أن الناس متفقون أن الحق هو الأحق بالركوب، ومنذ ذلك الحين خرجت الخلاصة الحياتية التي تقول (الحق راكب لكن الزور هو اللي ماشي).
تذكرت هذه الحكاية الشعبية القديمة خلال دورة تدريبية حضرتها، ولاحظت أن المدرب يتساهل مع الجميع في الحضور والغياب والتأخر، وبما أنني لا أستسيغ الغياب أو التأخر، وخصوصاً أنني اجتهد لترويج نفسي فقد بدأت التفكير في حصتي من الغياب على وزن التوزيع العادل للفساد، وتماهياً مع المرحلة طرأت أفكار جديدة في المكان. فبدلاً من الحضور تمام الثامنة استطيع الاستمتاع بقهوتي الصباحية، وقراءة المزيد من الصحف والمغادرة باكراً قبل نهاية الدوام الرسمي لشرب المزيد من القهوة مثلاً، تركت لنفسي مطلق الحرية في التصرف لأكتشف الطبع الإنساني، فثمة مبرر يقوي موقفي هو أن الجميع يتغيبون ويتأخرون.. إلخ، لا شيء يردع الفوضى والفساد والغياب والزور سوى القانون، ولكن السر ليس في وجوده فقط بل في تطبيقه.
في الحكاية تحول الحق إلى شيء جامد كسول وغير متحرك.. موجود ولكنه غير موجود، بينما نجد أن الزور هو الذي يمشي ويتحرك وينجز حتى لو حاربه سكان القرية وتحيزوا للحق ضده.
في التجربة السعودية صدر قرار بتشكيل الهيئة الوطنية لمكافة الفساد، الهيئة هي خامس أو سـادس مؤسسة حكومية في مجالها بعد ديوان المراقبة العامة والمباحث الإدارية وهيئة الرقابة والتحقيق وجمعية حماية المستهلك، بالإضافة إلى أقسام الرقابة والمتابعة الملحقة بوزارتي المالية والتجارة، وكذلك الإدارات القانونية في الوزارات ومؤسسات الدولة ولجان تقصي الحقائق، أي أننا ببساطة لا نعاني من انتفاء قانون يحارب الفساد ويجرمه، بل بالعكس أتمنى على هذه الهيئة أن تطـول فترة صمتها وأن تركز على إستراتيجية لتعزيـز سيادة القانون وتطبيقه، وأن تنزل وتمشي وتتحرك بين الناس كما كان الحق يفعل قبل ركوبه وتكاسله.