ليس من المنطق أن تستمر حالة الانقسام، وأن تتجه السلطة الفلسطينية دون أوراق قوية إلى نيويورك، للمطالبة بالاعتراف الدولي. لا بد من تحقيق افتراق استراتيجي عن السياسات السابقة التي حكمت العلاقة بين فتح وحماس

يتوقع كثيرون أن يجرى اعتراف أممي بالدولة الفلسطينية المستقلة، مع انعقاد الجمعية العمومية للأمم المتحدة بدورتها القادمة، أواخر هذا الشهر. ويذهب آخرون في تفاؤلهم إلى أن هذه الدولة ستصبح عضواً كاملاً بالمحافل الدولية. وبذلك يتحقق هدف عزيز ناضل الفلسطينيون من أجل تحقيقه عقوداً طويلة.
أمور كثيرة تواجه مسألة الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية المستقلة. وإذا ما تم الافتراض وحتى إذا ما افترضنا جدلاً بأن الفلسطينيين سيتمكنون من إنجاز هدفهم في الاعتراف بدولتهم، فإن ثمة مشاكل أخرى، ليست أقل أهمية وصعوبة، سوف تبقى تواجه هذا المشروع، وستظل معلقة دون حل، لعقود أخرى. فإعلان قيام الدولة لن يكون وفقاً لتصريحات رئيس السلطة الفلسطينية فك ارتباط نهائي عن الاحتلال الصهيوني.
وقد أكد أبو مازن مراراً وتكراراً أن الذهاب إلى الأمم المتحدة، ونيل صك الاستقلال، لا يعني نهاية للمفاوضات بين السلطة والعدو الصهيوني. وفي هذا السياق، أعاد التأكيد على التزام منظمة التحرير بالاتفاقيات الموقعة مع الكيان الغاصب، بما في ذلك اتفاقية أوسلو عام 1993. ذلك يعني، وفقاً للتجربة التاريخية، أن معظم الأمور العالقة بين السلطة وإسرائيل، سوف تبقى دون حل.
وعلى هذا الأساس، فإن قرار الاعتراف الدولي، سيبقى رهينة بيد إسرائيل المدعومة من قبل الولايات المتحدة الأميركية. وسوف تعود السلطة الفلسطينية للمربع الأول في مفاوضاتها مع الإسرائيليين. وسيكون الفيتو الأميركي ووقف تمويل الاتحاد الأوروبي سيفين مسلطتين فوق رقاب الفلسطينيين، إن هم تمسكوا بأدنى الحقوق. ولن يحول اعتراف الجمعية العمومية للأمم المتحدة بالسلطة، ما لم تتغير موازين القوى، دون استمرار الصهاينة في بناء المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومرة أخرى، ستصطدم السلطة الفلسطينية بالتصلب الإسرائيلي، ووصول المفاوضات إلى طريق مسدود.
ولن يكون مجدياً مراهنة القيادة الفلسطينية على أي تغيرات سياسية مستقبلية في الموقفين الإسرائيلي والأميركي، نتيجة لتغير خارطة ونتائج الانتخابات في الولايات المتحدة الأميركية، والكيان الغاصب. فقد اكتشفنا طيلة العقود التي مضت، من الصراع العربي- الصهيوني أن ليس من خلافات جوهرية، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، بين إدارات المحافظين والليبراليين. بل إن الوقائع قد أكدت أن الموقف المتشدد في إسرائيل والولايات المتحدة من القضية الفلسطينية هو أحد عناصر شرعية الحكومات المتتالية بالبلدين. فلم يكن هناك خلاف في الموقف بين رئيس الحكومة الإسرائيلي الليبرالي، أيهود باراك، ورئيس الحكومة الإسرائيلية اليميني المتطرف، بنجامين نتنياهو، ولا بين الرئيس الأميركي الجمهوري، جورج بوش أو الرئيس الأميركي الديمقراطي، باراك أوباما. فالكل عمل جل ما في وسعه لدعم سياسة إسرائيل الاستيطانية التوسعية، والتنكر لحق الفلسطينيين في العودة والحرية وتقرير المصير والاعتراف بعروبة القدس. بمعنى أن التعويل على تغير السياسة الإسرائيلية أو الأمريكية بسبب تغير الإدارات الحاكمة في أمريكا أو إسرائيل لن يتعدى حدود التسليم بالوهم.
والنتيجة أن ذهاب السلطة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة لن يكون خطوة تاريخية على طريق إنجاز الأهداف المشروعة للكفاح الفلسطيني. وأن سبل تحقيق الأهداف الوطنية، لن تكون خارج إيجاد خارطة نضال جديدة، تسهم في صياغتها مختلف فصائل المقاومة، وتعيد الاعتبار للوحدة الوطنية، وبشكل خاص الاتفاق بين حماس وفتح، على ثوابت الكفاح، وإعادة توحيد العمل الفلسطيني في الضفة والقطاع.
لقد واصلت السلطة الفلسطينية، في الشهور الأخيرة جهودها الدبلوماسية، وأبقت قنوات اتصالاتها مفتوحة مع الإسرائيليين والأميركان، تحت يافطة الدفع بعملية السلام. لكن تلك اللقاءات لم تنجز خطوة واحدة على طريق إقناع الإسرائيليين والأميركان بالاعتراف بالحقوق الفلسطينية. بل على النقيض من ذلك، كانت نتائجها مخيبة لآمال السلطة. لقد تقابل الرئيس أبو مازن مع رئيس الكيان الصهيوني، شمعون بيريز، ووزير الحرب أيهود باراك في العاصمة الأردنية عمان، ولم يستمع إلى ما يفيد باستعداد الإسرائيليين، لتقديم أي نوع من التنازل، من أجل إنجاح مسيرة السلام.
بل إن المبعوثين الرئاسيين الأميركيين، ديفيد هل ودنيس روس، اللذين استقبلهما أبو مازن بعد مكالمة هاتفية من وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون، بهدف ثنيه عن الذهاب للأمم المتحدة، قد هددا باستخدام الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن الدولي وقطع المعونات الأميركية.
ما تريده الإدارة الأميركية والحكومات الإسرائيلية هو أن تتحول منظمة التحرير التي انبثقت من رحم المقاومة إلى شرطي يحمي حدود الكيان الغاصب ويدافع عن مستوطناته ويشارك في الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني، وهدر المزيد من الوقت، من خلال المراهنة على الاستفراد الأميركي بالملف الفلسطيني، لقضم المزيد من الاستحقاقات الوطنية، مع تنكر فاضح للتعهدات التي نصت عليها الاتفاقيات التي وقعتها السلطة، برعاية أميركية مع الكيان الغاصب، ومن ضمنها اتفاق أوسلو وتفاهمات ميتشل وخارطة الطريق. وكان التهديد باستخدام الفيتو في حالة عرض ملف الاعتراف بالدولة الفلسطينية في مجلس الأمن هو قمة الانحياز الأميركي الفاضح للكيان الغاصب.
لا مخرج لحالة الارتباك التي تشوب عملية الإخراج للدولة الفلسطينية المتوقع عرضها في نهاية هذا الشهر سوى إنجاز المصالحة الوطنية، وتحقيق وحدة القوى المقاومة، والشروع في تنفيذ اتفاق القاهرة الأخير. ففي ظل الانقسام والتشرذم، تضعف أوراق المفاوض الفلسطيني، ويتراجع التفاف الشعب حول قياداته.
ليس من المنطق أن تستمر حالة الانقسام، وأن تتجه السلطة الفلسطينية عارية دون أوراق قوية إلى نيويورك، للمطالبة بالاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية المستقلة. لا بد من تحقيق افتراق إستراتيجي وجوهري عن السياسات السابقة التي حكمت العلاقة بين فتح وحماس، قبل الذهاب إلى نيويورك. والأجواء العربية، أكثر مواءمة الآن، بعد التحولات التي شهدتها أرض الكنانة فيما يخص العلاقة بالكيان الصهيوني، لتحقيق سياسة الافتراق مع الماضي، واعتماد منهج جديد يتبنى التوقف عن تقديم المزيد من التنازلات لصالح المشروع الصهيوني. ينبغي رفع سقف المطالب الفلسطينية، والنأي عن التكتيكات التي ثبت فشلها وعقمها.
ولن يكون ذلك ممكناً إلا بتحقيق التلاحم بين الفلسطينيين وصياغة إستراتيجية عملية ومبدعة معتمدة على المحركات الذاتية، والعمق العربي القومي، والثقة في قدرة الجيل الجديد على مواصلة الكفاح من أجل الحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة.