لم تعد هناك معرفة يمكن لنا أن ندعي أنها صحيحة مطلقا، ما يمكن لنا هو أن نقول إن هذه المعرفة صحيحة الآن وهنا، والمعرفة بهذا الشكل تصحح بعضها باستمرار في طريق لا نهاية له
ضمن حديثنا عن التطور العرفي لمفهوم الشك في التاريخ الفلسفي وصلنا إلى تحول الشك من كونه ضدا للمعرفة الموثوقة كما عند السفسطائيين ومن كونه عرَضا ربما حثّ الباحث ولكنه لا بد أن يتخلص منه كما في القرون الوسطى أيضا من كونه طريقا للمعرفة اليقينية كما عند ديكارت إلى تحوله إلى لب المعرفة وشرطها الأساسي. أي أن الشك أصبح مكونا جوهريا للمعرفة ولا يغادرها أبدا. اليوم نبحث معنى الشك في فلسفة العلم الحديث من خلال مشكلة تحديد الفاصل المعرفي(الإبستمولوجي) بين العلم التجريبي من جهة والرياضيات والمنطق من جهة أخرى ثم بينها وبين النظم الميتافيزيائية والتي هي مشكلة أساسية تعود إليها جل مشاكل نظرية المعرفة من خلال هذه المشكلة سنبحث أي دور يلعبه الشك في فلسفة القرن العشرين. سؤال هذه القضية الأساسي هو: ما الشروط التي إذا توفرت في نظرية ما أمكن القول إنها نظرية علمية؟ سأناقش هذه القضية من خلال أطروحات الفيلسوف الألماني كارل بوبر(1902-1994) هو فيلسوف علم ألماني-بريطاني واسع الإنتاج وصاحب أطروحات مهمة في مجالات الفكر والسياسة. يفحص بوبر أولا الإجابات السائدة قي عصره، الإجابات التي تحاول أن تحدد ما هو علمي من غيره. كان الجواب الأوسع قبولا ذلك الوقت هو أن العلم يتميز عن العلم الزائف أو الميتافيزياء بـمنهجه التجريبي وهو منهج استقرائي في الصميم. الاستقراء يعني أن يلاحظ الباحث عددا من الوقائع والأحداث ثم تقوده ملاحظاته هذه إلى استنتاج نظرية تصف وتفسر الظاهرة. بوبر يرى أن الأمور لا تتم بهذه الطريقة وأن الباحث لا يلاحظ وهو خالي الذهن بل تسبق وترافق عملية الاستقراء الكثير من الأفكار السابقة والحدوس والخيالات ومن هنا فبوبر لا يهمه كيف استنتجت النظرية، بل يهمه فحصها بعد أن تُنتَج وفقا لمعيار قابلية التكذيب أو التفنيد، وهذا المعيار هو الحد الفاصل بين العلم واللاعلم. معيار القابلية للتكذيب أو التفنيد يعني أن النظرية تسمح بإجراء اختبارات تكذيب عليها أي أنها قابلة لأن توضع موضع التجريب ويتم الحكم عليها. صمودها أمام التكذيب هو الذي يعطيها قيمتها العلمية. لا يهم هنا عدد الملاحظات والشواهد على صحة القضية بقدر ما يهم أن تكذيبها ممكن وإن لم يحدث. النظريات غير الممكن تكذيبها تجريبيا هي نظريات غير علمية.
يقارن بوبر بين الماركسية والفرويدية من جهة والنظرية النسبية لآينشتاين من جهة أخرى. النسبية يمكن إجراء تجارب تكذيب لها. أي إجراء اختبارات هدفها تكذيبها ومع ذلك صمدت ولذا فهي علمية حتى الآن. أما الماركسية والفرويدية فلا يمكن إجراء تجارب لتكذيبها، فهي محصنة ضد التكذيب بسبب غموضها أو بسبب آلياتها المصممة للتملص من الأدلة المضادة، ولذا فهي غير علمية. النظرية التي تكافح الشك أصبحت خارج سياق العلم. لا يعني هذا عند بوبر أنه لا فائدة من هذه النظريات ولكنه يعني أن تعامل من هذا المنظار وأن يتم الاحتراس من نتائجها ومقولاتها.
رغم اعتراف بوبر بفائدة الفلسفة الوضعية، خصوصا في توضيحها للعلاقة بين النظرية والتجربة، فهي تتجاوز المنطق الاستقرائي. إلا أن هذا لا يعني أنه يتفق معها بل الاختلاف معها أساسي يتعلق بمفهوم العلم وأهدافه وغاياته. يأخذ بوبر على الوضعية أنها تطلب من العلم اليقين المطلق كما يعبّر دينغلر امنظومة معارف راسخة الأسس. بوبر لا يرجو من العلم اليقين المطلق بل يبحث فيه عن أفضل إمكانية منفتحة باستمرار على الأفضل والأفضل. اليقين المطلق عند بوبر ليس علما، النظرية العلمية يجب أن تكون منفتحة على إمكانية التكذيب والتفنيد. أي نظرية في حالة من الشك. العلم لا ينبني على أساس من الصخر وإنما إن صح التعبير على أرض موحلة يقيم عليها نظرياته الجسورة. يعيد بوبر ما قاله بلانك من قبل عن التفكير الوضعي يتيح التطبيق الحاذق لشروط معيّنة جعل الظواهر تتطابق تماما مع الفرضيات. وفي هذا ما يرضي تماما مخيلتنا ولكنه لن يوسع معرفتنا.
النظرية الأفضل لدى بوبر هي تلك التي تصمد في التنافس أمام النظريات الأخرى والتي تبرر اختيارها بتخطيها لكل الفحوص القاسية التي أجريت عليها حتى الآن وبزعمها عن تحمّل أشد أنواع المراقبة الممكنة. الوضعية تفضل النظرية الأبسط، بينما يأخذ بوبر بعين الاعتبار قساوة الفحوص. ومن هنا أيضا يصبح مفهوم البساطة أيضا مساويا للقابلية للفحص، بمعنى أن النظرية البسيطة، ومن المعلوم أن الكثير من العلماء يرى أن بساطة النظرية إحدى مميزاتها وعناصر تفضيلها على غيرها، النظرية البسيطة لدى بوبر هي النظرية الأكثر قابلية للفحص والاختبار والتفنيد. إذن النظرية الأبسط أفضل، لأن مساحتها أوسع ولأن مضمونها التجريبي أكبر ولأنها أخيرا أفضل قابليةً للفحص.
لم تعد هناك معرفة يمكن لنا أن ندعي أنها صحيحة مطلقا، ما يمكن لنا هو أن نقول إن هذه المعرفة صحيحة الآن وهنا، والمعرفة بهذا الشكل تصحح بعضها باستمرار في طريق لا نهاية له. التطور العلمي والحراك داخل المعرفة البشرية يجعل من التاريخ شاهدا على ذلك. إنها عملية تصحيح مستمرة ولا يمكن أن تنتهي إلا بانتهاء الإنسان نفسه. لا تعترض هذه النظرية على معتقدات الناس وإيمانهم، كما لا تسخر منها أو تقلل من قيمتها. ولكنها تريد فتح الأفق لدى كل فرد ليفصل بين ما يعتقده هو وما يعتقده الآخرون. أن يدرك كل فرد الطابع الفردي لإيمانه. أما المعرفة المتعلقة بالشأن العام فيجب أن تتوفر فيها الشروط التي ترفع من معدلات خلوها من الرغبات الشخصية والرغبات الفردية إلى توافرها على معايير قابلة للتجريب والاختبار بناء على الوقائع التجريبية، مما يجعل من اتفاق الناس حولها أكبر. القوانين العلمية توفر ـ حسب بوبر ـ شرطين أساسيين للاستفادة من المعرفة وضمان تقدمها: أولا أنها توفر ثقة كافية للتطبيق والاستثمار. ثانيا أنها منفتحة على التطور ولا تدعي لنفسها ثباتا.