إذا كان مفهوم الإدارة في الماضي يعني إنجاز العمل من خلال الموظفين، فإن هذا المفهوم في الوقت الحاضر قد تغير وأصبح يعني تسهيل وتذليل الصعاب أمام الموظفين وتحفيزهم على نحو ابتكاري وإبداعي في إنجاز أعمالهم

من الانتقادات التي وجهت إلى الرقابة الحكومية بشكل عام، أنها مهما كانت فاعلة لا تستطيع أن تغير مديراً سيئاً بطبعه وتجعله مديراً جيدا، فالبعض يتصور أن الرقابة الحكومية من شأنها أن تضمن نجاح المشاريع أو على الأقل تحقيق الأهداف الرئيسة للجهة الحكومية.
صحيح أن الرقابة تكشف كثيرا من الانحرافات والسلبيات الإدارية مثل عدم وضوح الأهداف، والشكلية في الهياكل التنظيمية ، وسوء التخطيط..إلخ، وفي سبيل ذلك تقدم الرقابة توصيات من شأنها الحد من هذه السلبيات، إلا أنه في كثير من الأحيان فإن هذه التوصيات أياً كان شكلها لا يتم تطبيقها على أرض الواقع، وتصبح مجرد اقتراحات، حتى وإن صدرت في شأنها القرارات الإدارية من الجهة الحكومية.
وهكذا، فعلى الرغم من أن الرقابة تساعد السلطة التشريعية في إضفاء الثقة والمصداقية على التقارير المالية والإدارية والالتزام بالأنظمة والتعليمات، إلا أنها ليست علاجاً شافياً لجميع المشاكل.
وبالطبع هنا لا أتحدث عن حالات وقضايا الفساد المالي والإداري، فهذا موضوع آخر، وإنما الحديث عن العملية الإدارية نفسها في الجهات الحكومية، وبالتالي فإن ما واجهته الرقابة من انتقادات والمتعلقة بعدم استطاعتها تغيير المديرين السيئين فهي صحيحة إلى حد كبير.
وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن أدوار ومهام وظيفة المدير الحكومي ومسؤولياته فالثابت هوأن المدير موظف مسؤول أمام رؤسائه لضمان تحقيقه للأهداف المحددة، وفي المقابل يحتاج هذا المدير لضمان أن مرؤوسيه يؤدون أعمالهم على النحو المطلوب منهم.
والسؤال المطروح هنا كيف يؤدي المدير الحكومي مسؤولياته في إدارة مرؤوسيه ؟، وللإجابة عن هذا التساؤل من الضروري في البداية التطرق إلى الوضع الراهن لكيفية أداء هذه المسؤولية في بعض الجهات الحكومية وذلك من خلال بعض الدراسات والبحوث في هذا المجال.
ففي بعض الجهات الحكومية فإن المبدأ السائد فيها أن يؤمر الموظفون فينفذوا وليس لهم كلمة أو وجهة نظر في وضع الخطط وكيفية إنجاز العمل ، ووفقاً لهذا المبدأ فإن المديرأكثر دراية وأكثر فهماً من الموظفين بالمقارنة معهم.
وليس هذا فحسب بل إن الأمر قد يمتد إلى النظرة الدونية إلى الموظفين وخاصةً الصغار منهم، ناهيك عن إمكانية وجود التمييز المناطقي والقبلي والديني في التعامل مع الآخرين، فهذا سني أو شيعي أو هذا من القبيلة الفلانية وهذا من المنطقة الفلانية .
وبناءً على هذا المبدأ فإن العمل الإداري لمثل هؤلاء المديرين يكون مبنياً على أساس الشدة والقسوة غير الواعية والانفراد والمركزية في اتخاذ القرارات، ورفض مبدأ الحوار والنقاش، لذلك نجد أمثال هؤلاء ينصب تركيزهم في العمل على مسألة الحضور والانصراف والتأخير فقط، وإلقاء المحاضرات والتي لا تخلو من فذلكة وسخرية وتهديد، وذلك على حساب الإنتاجية والعمل.
وعلى هذا الأساس يقوم الموظفون بدراسة شخصيات رؤسائهم فيعرفون اتجاهاتهم وميولهم ، ويتصرفون في ضوء هذه المعلومات ، وبالتالي يكون العمل على أساس رغبات ومصالح الرئيس، ويكون الموظف المثالي هو من يطيع الأوامر طاعة عمياء بغض النظر عن الكفاءة وجودة العمل والأنظمة والتعليمات.
لذا لا نتعجب ولا نستغرب إذا رأينا خططا إدارية سيئة وضعيفة، وإنجازا غير مرضٍ وخدمة سيئة أو تعاملا سيئا ، لأن الموظفين أصبحوا إما شخصيات مهزوزة ومحطمة نفسياً وضعيفة لأنها تشعر بأن ليس لها كرامة وليس لها حقوق أو واجبات، فهم يؤدون العمل بدون رغبة أو اقتناع، فإذا كان هذا هو حالهم فكيف نطلب منهم الإبداع والابتكار والجودة في الإنتاجية؟.
إذا كان مفهوم الإدارة في الماضي يعني إنجاز العمل من خلال الموظفين، فإن هذا المفهوم في الوقت الحاضر قد تغير وأصبح يعني تسهيل وتذليل الصعاب أمام الموظفين وتحفيزهم على نحو ابتكاري وإبداعي في إنجاز أعمالهم، وذلك من خلال إيمان المديرين بحقوق الموظف كإنسان وإيمانهم بالتعددية والمشاركة في اتخاذ القرارات وإعداد الخطط وتنفيذها، واحترام وجهات نظرهم مهما كانت.
وكما يقول علماء الإدارة اليوم : أصبح من المستحيل على المدير في ظل الزيادة في التخصص والتقدم التقني أن يكون مواكباً للمعارف التي بحوزة مرؤوسيه، وهذا له تأثير دراماتيكي على الأسلوب الذي يجب أن يتبعه المدير في إدارة مرؤوسيه، فبدلاً من أن يخبرالمدير الموظف بكيفية أداء المهمة يحتاج المدير في العصر المعرفي أن (يسأل) مرؤوسيه عما ينبغي إنجازه.
وأعتقد أن البعض لا يستسيغ مثل هذا الكلام، لأن هذا في نظرهم يعد ضعفاً في شخصية المدير ويقلل من هيبته أمام موظفيه، لأنه كما ذكرت آنفاً يعتقد بعض المديرين أنه يفهم كل شيء وأكثر من موظفيه وارتباط الصورة النمطية للمدير بالآمر والناهي في الإدارة دون أن يعترض عليه أحد حتى ولو كان مخطئاً، ومن يعترض فسوف ينال جزاءه الرادع بحجة أنه يسخر من رؤسائه ولا ينفذ أوامرهم، وللأسف فإن هذه الصورة ليست قاصرة فقط على المديرين بل حتى الموظفين يعتقدون هذا الاعتقاد ويقولون هذه هي (سنة الحياة) ، والعين ما تعلى على الحاجب.
لذا نجد كثيرا من المديرين في العصرالحالي يقع في الحرج الشديد أمام مرؤوسيه وخاصةً في الأمور الفنية التي لا يدركها بسبب تنوع الاختصاصات والزيادة المعرفية، لذلك نرى بعضهم يركز على التصحيح اللغوي والإملائي للخطابات والتقارير فقط، والتسلط على الموظفين وهذا ما يسمى بالاستبداد الإداري.
اليوم أصبح الموظفون أكثر تعلماً ومعرفة وأكثرهم من الشباب المتحمس، ولم يعودوا يقبلون مبدأ أن يؤمروا فينفذوا، بل أصبحوا يطالبون بأن تكون لهم كلمة في كيفية إنجازالأعمال، ويطالبون بأن تحترم آراؤهم ووجهات نظرهم، لذا يجب على المديرين اليوم أن يكونوا داعمين ومشجعين لهم، مع الاحتفاظ بدرجة معقولة من الرقابة على أعمالهم.