مهما حاول العراق أن يلعب مع الكويت اللعبة التي لعبها مع الأكراد وإيهامهم بأن النظام 'السابق' هو المتهم بالفظائع التي ارتكبها بحقهم في محاولة للتهرب من المسؤولية القضائية، فإنهم أذكى من أن ينخدعوا بكلام ظاهره يبدو كالحقيقة

عادت أجواء التوتر تسود العلاقات الكويتية العراقية بعد فترة من الهدوء النسبي، وارتفعت من جديد وتيرة الخطابات النارية المتبادلة التي تدعو إلى الحقد والكراهية، والنفوس مشحونة من جانب الطرفين أصلا لا تحتاج إلى جهد كبير من قبل السيئين لتنفجر وتنفلت من عقالها، يكفي أن تدير شريط الماضي القريب على ممارسات النظام البعثي الوحشية ومأساة الغزو قليلا لتعيد العلاقة فورا إلى سابق عهدها من تدهور وعدوانية.. وإذا كان مشروع ميناء مبارك الكبير الذي تنوي الكويت إقامته في جزيرة بوبيان الحدودية قد فجر الموقف بين البلدين بصورة أكثر حدة من ذي قبل حتى وصل الأمر ببعض الجهات العراقية إلى توجيه تهديد مسلح مباشر إلى الكويت في حال استمرارها في إنشاء الميناء مما اضطر الأخيرة إلى إرسال قواتها على الحدود تحسبا لأي هجوم عراقي محتمل، وإزاء حالة الحرب الإعلامية والدبلوماسية القائمة وعدم لجوء البلدين إلى جهة دولية محايدة للتحكيم، فليس بمقدور أحد أن يتكهن بما ستؤول إليه الأمور في الأيام القادمة.
المشكلة الحقيقية التي تحول دون توصل البلدين دائما على الأقل منذ 2003 إلى صيغة تفاهم مشتركة للخلافات العالقة بينهما، ليست في بناء ميناء أو مطالبة بتعويضات أو دفع ديون، بل المشكلة تكمن بشكل أساسي في أن كل طرف يرى الآخر بمنظار مختلف، فالكويت ترى أن العراق لم يدفع ثمن طيشه وتهوره بما فيه الكفاية، ولم يعاقب كما ينبغي على الرغم من سقوط نظامه القمعي السابق بكافة مؤسساته العسكرية والمدنية وطغمته الحاكمة ومجيء نظام جديد من المفترض أنه على نقيض منه تماما، ينتهج سياسة متوازنة ويحمل توجهات ديمقراطية، فالعراق الدولة طبقا لوجهة نظر الكويت هو المسؤول مسؤولية مباشرة عما حدث للبلاد من غزو واحتلال ودمار ومن غير الممكن تعليق كل الأخطاء التي ارتكبت بحقها على شماعة النظام السياسي العراقي، وإخراج الدولة من دائرة المسؤولية، فالدولة والنظام وجهان لعملة واحدة، كلاهما يتحملان مسؤولية ما جرى للكويت، وإن كانت الدولة تتحمل الوزر الأكبر، بينما يرى العراق ويصر على أن النظام السياسي السابق هو الذي يجب أن يعاقب ويحاكم عن الجرائم الكبيرة التي ارتكبها، وبما أن النظام السابق قد حوكم وعوقب وولى إلى غير رجعة ولم يعد يمثل السلطة فلا معنى للعقوبات التي فرضت على الدولة العراقية بما في ذلك التعويضات والديون الكبيرة التي طالما سعى العراق لدى الدول الدائنة إلى شطبها وإزالتها، وقد نجح إلى حد كبير في التخفيف منها، ولكن ظلت التعويضات التي تطالب الكويت على حالها، لم تتغير، بسبب ما تعتقده الكويت وهي على حق من أن الدولة العراقية هي الجهة الرئيسة التي يجب أن تعاقب وتدفع الثمن أسوة بألمانيا الاتحادية التي ظلت تدفع تعويضات لليهود من (الهولوكوست) في إطار اتفاقية (لوكسمبرغ) عام 1952 لسنوات عدة على الرغم من سقوط النظام النازي وأفول نجمه.. ولم يكن الأكراد بنفس درجة الكويتيين من النباهة السياسية فعلى الرغم من تعرضهم لممارسات قمعية منظمة بأساليب وحشية من تهجير وتعريب وعمليات إبادة جماعية (جينوسايد) من قبل الأنظمة العراقية المتعاقبة منذ تأسيس الدولة العراقية ولكنهم لم يجرؤوا على مطالبة الحكومات العراقية بالتعويض عن حقوقهم الشرعية التي أهدرت من قبل قواتها العسكرية القمعية، كما ولم يقم أي نظام سياسي عراقي من جانبه ومن ضمنه النظام الحالي الذي يدعي حقوق الإنسان والديمقراطية على تقديم كلمة اعتذار واحدة للشعب الكردي عن الجرائم التي ارتكبت بحقه، ناهيك عن دفع تعويضات أو إصلاح القرى التي تهدمت على رؤوس ساكنيها، فبمجرد أن يذهب نظام، حتى تسدل الستارة على جرائمه السابقة وكأن شيئا لم يحدث ومن ثم يأتي الدور على نظام جديد ليدشن فترة جديدة من حياته السياسية بجرائم جديدة وأعمال وحشية جديدة دون أن يتعرض للمساءلة بما يستحق وهكذا دواليك، نظام يتبع نظاما ويمضي في طريقه دون عقوبات تذكر وعفى الله عما سلف، وقد طالبت ـ في حينها، عقب تشكيل مجلس الحكم عام 2003 ـ قادة الكرد الحاليين برفع دعوى قضائية عاجلة على الدولة العراقية في المحاكم والمحافل القضائية الدولية للمثول أمام عدالتها، لتحاسب على كل الأعمال التي اقترفتها بحق الأكراد، وتدفع ثمن سياساتها الخاطئة وبخاصة تلك التي كان النظام البعثي البائد يمارسها ضدهم باستمرار، ولكن لم يسمعني أحد منهم، ربما فاتتهم حقيقة أن من يتعود على التفريط في حقه لا يمكن أن يكون حرا أبدا، بل يظل ينحدر في إنسانيته إلى أن يصل إلى نقطة لا عودة منها.
مهما حاول العراق أن يلعب مع الكويت اللعبة التي تعود أن يلعبها مع الأكراد وإيهامهم بأن النظام السابق هو المتهم والمتورط في الفظائع التي ارتكبها بحقهم في محاولة للتهرب من المسؤولية القضائية، فإنهم أذكى وأفطن من أن ينخدعوا بكلام ظاهره يبدو كالحقيقة ولكن باطنه يحمل دجلا كبيرا، صحيح أن النظام البعثي فعل كل الموبقات ولكن بموارد الدولة وتحت مظلتها وباسمها وفي ظل سيادتها التي فقدت.