ألا تعلم الهيئة الموقرة أن الحصانة النظامية لا تكون إلا لقرارات المجلسين القضائيين، دون قرارات رئيسيهما، فإلى من يلجأ المتضررون من رئيسي المجلسين؛ سواءٌ: من القضاة، أو من غيرهم؟

إن نظرة فاحصة للمؤسسة التشريعية في بلادنا تجعل الناظر يجزم بأن لهيئة الخبراء في المملكة العربية السعودية دوراً ليس بالثانوي ولا بالتابع، فالهيئة رائدة في كادرها، وفي تخصصها، وفي مهماتها.
قد تبدأ اقتراحات الأنظمة من الهيئة وتنتهي إليها، وقد تبدأ الاقتراحات من الدوائر المعنية بتطبيقات تلك الأنظمة؛ لتكمل الهيئة المسيرة، وقد تتلقى الهيئة الأنظمة والقوانين الجاهزة، فتتفحصها، وتجري عليها بعض التعديلات أو التحسينات، قبل عرض المقام السامي لتلك الأنظمة على مجلس الشورى.
المهم في الأمر: أن الهيئة جهة لابد منها للمواءمة بين الأنظمة السعودية؛ حتى لا تتنافر فيما بينها، وحتى تتقارب نصوصها ومعانيها بما يمنع من تعارضها، وبما يوحد جهة تفسيرها عند حصول إشكالاتٍ ما.
هذه المهمة الخطيرة لم تمنع من تعثر الهيئة عند هيكلتها المؤسسة القضائية، فوقعت في تناقض غريب، ووقوع الهيئة في هذا المزلق لا يمنع من تدارك الخطأ؛ فالرجوع إلى الحق من الفضائل.
لقد تزامن اقتراح إنشاء الهيئة مع فكرة فصل القضاء الإداري عن القضاء العدلي عام 1373، ثم تحددت شخصية الجهازين في عام واحد هو 1402؛ حيث تشكل الجهازان بوضوح، ولعل لهذا التزامن ما يوحي بوحدة المدرسة القانونية لمستشاري تلك الفترة، وأنها المدرسة الفرنسية الوافدة إلى بلادنا عبر الخبراء المصريين الذين وجدوا ترحيباً خاصاً من الحكومة السعودية في تلك الفترة لاعتباراتٍ سياسية وإنسانية، إضافة إلى ما يتحلَّون به من علمٍ وخبرةٍ في مجالاتٍ شتى.
ومن السَّقطات القانونية من تلك الكوكبة التوجُّه إلى فصل القضاء الإداري، بدلاً عن تجهيز القضاء العدلي لاستيعاب أنظمة الأقضية المتخصصة، مع أن القضاء الإداري لم يتشكَّل باستقلالٍ حقيقيٍ إلا بعد ثلاثين عاماً من تبني مبدأ الفصل، وكانت فترة ثلاثين سنة كافيةً لتبني جيلٍ وطنيٍ من سن الحضانة، وتهيئته ليكون جيلاً شرعياً وقانونياً رائداً، فيتحمل مهمة الأقضية النظامية المصلحيَّة جنباً إلى جنبٍ مع إخوانهم القضاة الشرعيين، بل إن تلك الفترة كافيةٌ لتطوير التعليم الحقوقي، بدلاً عن الاستسلام المتخاذل لتيار الممانعة وهبوب الرفض اللذين أخرا المسيرة الصائبة أكثر من نصف قرنٍ من سنوات الرخاء والاستقرار.
قدَّر الله، وما شاء فعل. لقد كتب الله على أهل هذه البلاد أن يعيشوا ازدواجاً معيباً في قضائهم مع أن حاضنة كلٍ من القضاءين جامعة واحدة منذ انفصال القضاء الإداري وحتى أقل من خمس سنوات مضت.
لقد نتج عن هذا الانفصال الحسي انفصال معنوي، فنظر القضاة الشرعيون إلى القضاة الإداريين كما ينظر العامة إلى من يتخذ سكناً غير سكن والديه، واستكثروا عليهم تسميتهم بالمشايخ، فقابلهم القضاة الإداريون بالنظر إليهم كنظر من استوطن المدينة حديثاً إلى أهل قريته الأولى.
وصحب هذا التضاد في المشاعر المتنافرة ظهور أحكام معلبة من أحد الفريقين تجاه الفريق الآخر؛ خصوصاً: ممن يهمهم إذكاء هذا الأوار لغاية في أنفسهم.
ولم يتبين عموم الفريقين خطأ هذه النظرات إلا في وقت متأخر، فاقتربوا وتقاربوا وتناصحوا وائتلفوا، ولم يبق لاكتمال العقد إلا أن تتوحد جهة الإشراف على القضاءين؛ لسد تلك الثغرة التي أحدثها حماس أولئك المستشارين، وانساقت لها هيئة الخبراء عند وضعها آخر نظامين للقضاءين العدلي والإداري.
إن التفريق بين المتماثلات في السوء كالجمع بين المختلفات، وكلاهما وقعت فيه الهيئة الموقرة، فقد كان تعليل الهيئة عند فصل القضاء الإداري هو تحقيق استقلاله عن السلطة التنفيذية التي هي طرف ثابت في جميع الدعاوى الإدارية، ولذلك خضعت قرارات وزير العدل للاعتراض عليها لدى القضاء الإداري.
ومع تسليمنا بسلامة إخضاع قرارات جميع الوزراء للقضاء الإداري، إلا أنه من أعجب العجب أن ينطلي على هيئةٍ بذلك الحجم أن تظن أنها حققت استقلالاً تاماً للقضاء الإداري لو تصورنا الأمور التالية:-
أولاً: لو افترضنا جدلاً أن الفصل قد حقق استقلال القضاء الإداري، فما هو نصيب القضاء العدلي من هذا الاستقلال، أم أن القضاء العدلي لا يحتاج لمثل ذلك الاستقلال التام؟.
ثانياً: لعل الناطق باسم الهيئة يقول: إن المجلس الأعلى للقضاء مفصول عن الوزارة، وهذا تحقيق للاستقلال المطلوب للقضاء العدلي، عند ذلك يمكن أن نقول له: فَلِمَ لم تَفصِل الهيئة مجلس القضاء الإداري عن رئاسة الديوان؛ لتحقيق الاستقلال التام للقضاء الإداري عن جهة إدارته؟.
ثالثاً: إن رئيس ديوان المظالم يقوم للقضاء الإداري بذات الدور الذي يقوم به وزير العدل للقضاء العدلي، فلماذا جمعت الهيئة بين الدور الإداري والقضائي لرئيس الديوان، وفصلت بين الدورين في القضاء العدلي؟.
رابعاً: هناك قرارات يصدرها رئيس الديوان خارج نطاق مجلس القضاء الإداري، فما موقف الهيئة من الاعتراض عليها؟، خصوصاً: أن المعترض عليه هنا هو رئيس المجلس الذي يشرف على القضاء الإداري، فأين الاستقلال التام المزعوم في هذه المسألة؟.
خامساً: ما موقف إخواننا قضاة المحاكم الإدارية من قرارات الحد من سلطة القضاء الإداري التي يتخذها رئيس الديوان خارج نطاق مجلس القضاء الإداري؟.
سادساً: ما موقف أصحاب المصالح من الموظفين، والمواطنين، وإدارات الشركات من القرارات السلبية برفض دعاواهم ضد جهة الإدارة والتي يتخذها رئيس الديوان خارج نطاق مجلس القضاء الإداري؟، وإلى أي جهة يحتكمون ضد جميع قرارات رئيس الديوان؟، وأين هو القضاء الإداري المستقل تماماً من تلك القرارات؟، أم: أن هذه الثغرة قد فاتت على مستشاري الهيئة عند وضع النظام؟.
سابعاً: ما يقال عن قرارات رئيس الديوان يرد على القرارات التي يتخذها رئيس المجلس الأعلى للقضاء خارج نطاق المجلس، فَلِمَ لم تخضعها الهيئة للقضاء الإداري كغيرها من قرارات الوزراء؟.
ثامناً: ألا تعلم الهيئة الموقرة أن الحصانة النظامية لا تكون إلا لقرارات المجلسين القضائيين، دون قرارات رئيسيهما، فإلى من يلجأ المتضررون من رئيسي المجلسين؛ سواءٌ: من القضاة، أو من غيرهم؟.
تاسعاً: ما دام الوضع متماثلاً لدى القضاءين - في تلك الكبوة - فأيُّ استقلالٍ تحقق من هذا الفصل الأكذوبة؟.
إن أرادت الهيئة النهوض من كبوتها تلك فلابد لها من أحد أمرين:-
1: فصل مجلس القضاء الإداري عن رئاسة الديوان، وإخضاع جميع قرارات رئيس الديوان للقضاء الإداري.
2: دمج مجلسي القضاء في بعضهما، وضم رئاسة الديوان إلى الوزارة، إضافة إلى إخضاع قرارات رئاسة المجلس الأعلى للقضاء لما خضعت له قرارات الوزارة.