طوال مسيرته والمراحل التي مرت من خلالها حياته، كان الأمير محمد العبدالله يتحدث بفخر عن كل اللحظات التي عاش فيها ما يعيشه أي مواطن سعودي عادي

رغم أنه كان في قلب كل المحاورالتي تتسع لكثير من الصراخ والأصوات العالية إلا أنه رحل هادئا وراقيا جدا، الأمير محمد العبد الله الفيصل، رجل الإدارة والرياضة والأدب والفن، والرجل الهادئ والمؤثر في آن معا، في الوقت الذي كان بإمكانه أن يتحول إلى نجم صاخب في الرياضة أو في الفن أو في مختلف القضايا الوطنية، فضل أن يظل نجما هادئا، إلا أنه لم يستطع أن يمنع بريقه ولمعانه. طوال مسيرته والمراحل التي مرت من خلالها حياته، كان الأمير يتحدث بفخر عن كل اللحظات التي عاش فيها ما يعيشه أي مواطن سعودي عادي، كان يشعر بالزهو وهو يروي تجربته في وزارة التربية والتعليم، وكيف أنه فضل الاستقالة حين وجد خلافا في وجهات النظر بينه وبين المسؤولين في الوزارة، وتأثير ذلك الخلاف على أدائه، وكيف اتجه بعد تخرجه في الجامعة ليبحث عن عمل، وكيف تم إيقافه من البعثة نظرا لغيابه عن الجامعة بسبب ملازمته لوالدته، كلها أحداث تؤكد أننا أمام مواطن سعودي فضل أن تسير حياته وفق ما هو قائم من ظروف، واتجه ليبني مستقبله بذاته، منطلقا في ذلك من شخصية الراحل الكبيرالأميرعبدالله الفيصل، الرجل الذي يعد من أوائل أحفاد المؤسس تأثيرا في الحياة السعودية، ومن أكثر أبناء الملك فيصل رحمه الله تمرسا في السياسة والأدب.
لا يخرج محمد العبد الله الفيصل من تجاربه التي مر بها خاليا، بل استطاع تشكيل حزمة من الآراء القوية والجريئة والوطنية، ولقد تناقلت مختلف الأوساط الإعلامية رؤيته للمناهج التعليمية في السعودية، وذلك حين رأى أن ثمة قصورا في مناهج التعليم الديني لأنها تركز على الحفظ، وذكر جملة مهمة ومؤثرة للغاية، والتي أوضح من خلالها أن المطلوب من المناهج الدينية أن تعلم الطالب فلسفة الإيمان وروحه وقيمه فذلك هو التحصين الحقيقي له، وذلك هو البناء الحقيقي لشخصيته ولأفكاره، ومع أنه بإمكانه في تلك الفترة أن يتوقف عند حدود النقد النظري، لكن أمانته الوطنية حركته مبكرا ليتجه لوزيرالمعارف آنذاك الشيخ حسن آل الشيخ، ويشرح له بكل أمانة رأيه في المناهج الدينية، وقد حمل رأيه لفتة تربوية مهمة حين أوضح له بأن المطلوب ليس تغيير المناهج بل تغييرالطريقة والأسلوب اللذين يتم بهما تدريس تلك المناهج. كانت هذه الآراء موقفا وطنيا مبكرا جدا من الأميرالراحل، وهي التي ما زلنا نستنفد من أجلها كثيرا من الأطروحات والنقاشات الحالية، كان بإمكان الأمير أن يظل صامتا في تلك الفترة التي كانت تغلب فيها الآراء التقليدية المحافظة على أفكار التطوير والتحديث، إلا أن إيمانه بمسؤوليته الوطنية لم تجعل لديه للصمت مكانا، وتلك هي الشخصيات الوطنية التي ربما تدرك أن آراءها قد تتعرض لبعض المواجهة إلا أن وعيها وإحساسها الوطني المبكر يحتم عليها أن تأخذ موقفا شجاعا، وها هو التعليم اليوم يجعل من تلك القضايا التي طرحها محمد العبد الله الفيصل قبل عقود من الزمن، أبرز وأهم قضاياه التي يعمل من أجل إصلاحها وتحديثها.
يؤمن الراحل الأمير محمد العبد الله الفيصل بأن ثمة أجيالا تتعاقب وتستحق أن تأخذ مكانها، وهو ما ظل يؤكد عليه، وتحديدا في الجانب الرياضي من نشاطه ومسيرته، فقبل ما يزيد على خمس سنوات أعلن خروجه من الوسط الرياضي مؤكدا أن جيلا جديدا يجب أن يأخذ فرصته، كان من القلة في الوسط الرياضي الذين يتحدثون بعقلانية عن الرياضة، حيث يؤكد في أكثر من مناسبة حاجة الوسط الرياضي إلى مزيد من الوعي وإلى مزيد من الثقافة، وهو ما يوضح جانبا من كونه رغم عراقة تجربته في الرياضة إلا أنها من أكثر التجارب رقيا وهدوءا واتزانا. في مسيرة محمد العبد الله الفيصل يتبدى الفن والأدب طيفا ساحرا من الألوان والجمال، فلقد مثل الراحل بوابة كبرى عبرت منها العشرات من الحناجر الفنية الراقية التي تلون الآن مشهد الفن المحلي، ومن خلال أعمال سطرها الراحل لا يتوقف جمالها والإحساس بها عند جيل دون غيره، ينطلق في ذلك من رؤية عميقة جدا حين يقول: الشعر يحتاج إلى قلق نفسي، وذلك ردا على سؤال حول هدوئه الشعري مؤخرا. رغم أنه هو الذي حرك الذائقة الفنية في أعمال يحملها التاريخ من (مقادير) (لا تقول) (مرت ولا حتى تلتفت).
أيها الراحل الأنيق، كل الذين ودعوك في مثواك الأخير عائدون لا ليشعروا بفراغ بعد، بل ليجدوك حولهم في كل مكان، في آرائهم الوطنية، وفي ثقافتهم الرياضية، وفي ذوقهم الذي ازدهر ثمرا بذرته حروفك، كلهم عادوا ليجدوك تملأ المكان والزمان، وكل عائد منهم، يتخيل صورتك، ويردد لك: أنا راجع أشوفك.