نعرف شيئاً اسمه الفوضى الخلاقة، لكن هل هناك شيء اسمه الخيال الخلاق، أو الأحلام البنّاءة؟ لا أدري إن كانت نظرية الخيال عند كولردج تتضمن شيئاً كهذا، بيد أنّني أدري أن الخيال قوّةٌ تُضافُ إلى العقل، من خلال منحه حريةً مطلقة، تحطم قيوده كلَّها، وأنّه ملَكةٌ مهمة لإدراك الحقائق والوصول إلى المعرفة والإبداع، وأدري أن الطفلة المكّيّةَ حياة سندي كانت تلعب لعبة الخيال، وتذهب فيه إلى المدى الأبعد، والمناطق المستحيلة، بالنسبة إلى الزمان والمكان؛ فتذهب شمالاً. شرقاً. جنوباً. غرباً، وتستذكر، وتستشرف، مضيفةً إلى الجهات الأربع العلوَّ والعمق، فترى نفسها رائدة فضاء، أو تتخيّلها مخترعةً مشهورة.
تقول عن لعبتها الخيال: كانت لعبتي المفضلة، وخلوتي التي أحلق في سمائها لأتلمس حلمي البعيد، ثم أخرج منها لأسأل والدي هل الأبطال الذين حققوا كل هذه الإنجازات العلمية المبهرة استثناءات؟ هل هم مثلنا؟ وكيف أصبح مثلهم وأقدم إنجازاً يخدم البشرية؟ فكان يجيبني: بالعلم يا ابنتي يحقق الإنسان مايطمح إليه ويخلد اسمه في سجلات التاريخ.
هكذا استجمعت حياة سندي طموحاتها، وجمّعت أوصالَ حلمها، آملةَ في الانضمام إلى الذين علّقتْ صورَهم على الجدار الرئيس في ذهنها، من أمثال: الخوارزمي، الرازي، ابن الهيثم، ماري كوري، اينشتاين، جابر بن حيّان، وغيرهم ممّن خلقوا للبشريّة عوالمَها المادّية الجامحة باتجاه الأمام، والأمام فقط.
تلقّت حياةُ تعليمَها الأوّلي التلقيني كما نتلقّاه، فحصلت على الثانوية، والماء أقلّ من العطش، والخيال أوسعُ من الحصيلة، لكنّ خيالَها صار هاجِساً، فقرأت، وقرأت، حتّى اهتدت إلى علمٍ لا يوجدُ في بلادنا بوصفه قِسْماً علميّا متخصّصاً، وهو علم الأدوية.
كان لا بدّ لها من الارتحال إلى بلادٍ تستطيع فيها أن تجمع أشتاتَ الخيال، فقررت الارتحالَ إلى لندن، لكن الآمالَ والخيالات والطموحات لا تكفي، فحياة تحمل حصيلة علمية متواضعة، ولغة إنجليزية ضعيفة، تحتاج معها إلى المزيد من الجهد، كي تستطيع تشكيل عجينة أحلامها الصلبة.
قالوا: إنه يتحتّم عليها أن تنجز الثانوية البريطانية، ولم يقبلوها لضعف لغتها، فاختارتْ أن تمدّ يديها إلى أعلى غصنٍ في الحلم، برغم قصر القامة، وتعهدت بتقوية لغتها الإنجليزية، حتّى إنها كانت تدرس من 18 إلى 20 ساعةً يوميّاً، مما جعلَها تنجحُ في إقناع الكلام بالرضوخ، بعد أن اعتقلتْ أطرافَه بنجاحٍ باهر، تقول عن تلك المرحلة: مرحلة لا أذكر خلالها أنني تمتعت بليلة واحدة من النوم العميق، لفرط قلقي وخشيتي من الفشل، ونجحتُ في الاختبارات نجاحاً أهّلني للحصول على قبول غير مشروط في جميع الجامعات التي تقدمت لها، والتحقتُ بجامعة كينجز كوليج.
استجلت الطريق، وحدّدت مسار الحلم، مؤمنةً بأنّ العقبات التالية، لن تكون كالأولى، فمن استطاع أن يكتشفَ نتيجة إصراره مرّةً، سيكتشفُها ـ بعد ذلك ـ ألف مرّة، ولذا آمنت بقولها: الصعوبات هي التي تجعلنا نشعر بحجم الإنجاز.
في جامعة كينجز كوليج، قاومت الاغترابَ الثقافي بحفظها القرآن الكريم كاملاً، وأسهمت في عددٍ من الأبحاث الدقيقة، وحصلت على أعلى الدرجات، حتّى تخرجت بنجاح مع مرتبة الشرف.
في مرحلة الدكتوراه، فاجأها المشرف قائلاً: فاشلة .. فاشلة.. فاشلة، لأنّها لم تفصل الدين عن العلم، ويبدو أن حكْم أستاذها، قد جدّد فيها روحَ التحدّي، فبقيتْ ملتزمةً بحجابِها وكتابِها، إلا أن هذه النظرة تخلخلت، حين استطاعتْ أن تمزج عنصر الروح، بعنصر المادّة، وبدأ مشرفُها يحترمها لعلمها، حتّى وصل التقدير إلى حدود احترام وقت صيامها، فامتنع زملاؤها عن الطعام أمامها.
تخصّصتْ حياةُ في التقنية الحيوية، مؤمنةً بأنّ من ينجح في التحكم بالتقنية الحيوية، ينجح في التحكم بالعالم وتسخير موارده لحياة أفضل، وتصفه ببساطة بأنه تسخير الكائنات المجهرية الدقيقة لفائدة الإنسان.
في مرحلة الدكتوراه، سارت سيرتَها الأولى، فاجتهدت، ومثّلت جامعتَها في المؤتمرات العلميّة، ودعتها وكالة للعمل فيها؛ في السنة الثانية من إعدادها لرسالة الدكتوراه، حتّى كانت الصدمة الكبرى، قبل 9 أشهر من انتهاء منحتها الدراسية من جامعة كوليج، حين وجّه إليها رئيس الجامعة خطاباً غير مبرّر، يطلب منها تغيير البحث، والبدء في آخر جديد، فسابقت الوقت، لكن وقت المنحة انتهى، ولم ينقذها إلا الملك، الأمير حينئذ، عبدالله بن عبدالعزيز، الذي تكفّل بتكاليف الفترة المتبقية من دراستها.
أنجزتْ رسالة الدكتوراه، وهي دراسات متقدمة في أدوات القياس الكهرومغناطيسية والصوتية، وقد صنفها البروفيسور الذي ناقشها آنذاك بأنها خمس رسائل في رسالة، لأنها تذهب إلى غير مجالٍ علمي.
واصلتْ حياةُ تميّزها العلمي، فابتكرت مجسا للموجات الصوتية والمغناطيسية، يمكنه تحديد الدواء المطلوب لجسم الإنسان، ويُعرف ابتكارها في الأوساط العلميّة، بـمارس، وله تطبيقات متعددة في الصناعات الدوائية، وفحوصات الجينات، والحمض النووي، والمشاريع البحثية المتعلقة بحماية البيئة وقياس نسبة الغازات السامة، ويتميز ابتكارها بدقةٍ عالية، وصلت إلى تحقيق نسبة نجاح في معرفة الاستعداد الجيني للإصابة بالسكر، تفوق 99%، بعد أن كانت لا تتجاوز 25%.
بقيت هذه الحياة على انتمائها الحقيقي، فرفضت إغراءاتِ أربع دعوات إسرائيلية، للمشاركة في مركز وايزمان انستتيوت، بتل أبيب، لإدراكها الخطورة الثقافية المترتّبة على تطبيع البحث العلمي، كما دعتها جامعة بركلي بمدينة كاليفورنيا الأميركية لتكون واحدة ضمن أبرز ثلاث عالمات بالجامعة.
أما في بلادها، فقد تلقّتْ دعوة يتيمة، من وزارة التربية والتعليم، لتعملَ مراقبة على الطالبات في مدرسة بإحدى الهجر القريبة من الجوف، حينَها، سمعتْ الريحَ تضحك ضحكةً مجلجة، حتّى سرتْ قشعريرةٌ في عاصفتها اليمنى، أو هكذا خُيّل لي.
حياة الجادّة، تحبّ الحياة، والنّاس، وتبتكر المباهج في معمل قلبِها، المعطّر بالبخور كمنازل الحجازيين، والمسيّج بالتنهّدات على وطن، والمتجمهر بأفواجٍ من الحنين، فتستمتع بالموسيقا والشعر وموروث الحجاز.
حياة المكّيّة، تنتمي، وتنتمي، وتنتمي برغم المسافات، فترتدي أزياء المكّيّات في بريطانيا، وتؤثّث بيتَها اللندني بأثاثٍ على الطراز الحجازي، علّها تعيش هنا، وهي هناك.