إن إدارة هذه الحشود وتأمين حاجياتها - لوجستيا- لمجرد ثلاث ليال بهذا العدد تحتاج من القوة العاملة ومن الدعم اللوجستي ما تستنزفه إدارة ثلاث دورات أولمبية

لا أظن أنها مرت في كل التاريخ الإنساني صورة (احتشاد) بأكثر مما أشاهده هذه اللحظة على الشاشة وأنا أكتب في منتصف الساعة من ليلة الذروة في السابع والعشرين من الشهر المبارك. أكتب والمعلومة الحسابية المؤكدة تشير إلى أن الفارق هذا العام يميل بمقدار مليون معتمر إضافي عن ثلث رمضان الماضي، ومنها نصف مليون تأشيرة عمرة، زيادة على ما دمغته سفاراتنا المختلفة في ذات الوقت من العام الماضي نفسه. وما بين الساعة الثالثة والخامسة من صباح اليوم نفسه يحتاج هذا الحشد بما يلي: عشرة ملايين عبوة من الماء بمقدار نصف لتر في العبوة. ثلاثة ملايين وجبة سحور بكل ما تحتاجه من الإمداد اللوجستي الهائل في ظرف ساعتين. وأكثر من هذا فإن القصة المدهشة هي ما يتحدث عنه الزميل الدكتور، سالم العمران، عن الهندسة الفراغية التي تحتاجها إدارة هذا الحشد الهائل، وهو المتخصص الذي يشرح لي كيف يكون التصور مستحيلاً ما بين الأبعاد الثلاثة: في المكان (مركز الاحتشاد وهو الحرم) وفي الزمان (ما بين انتهاء القيام وصلاة الفجر) وفي الزحام وهو يتحدث عن رقم تقديري يناهز الملايين الثلاثة. ثلاثة ملايين يتحركون في حدود ثلاثة كيلومترات مربعة وفي ظرف ساعتين. وبالطبع يصعب تبسيط رؤية الزميل وهو يصر على أن مفاهيم الهندسة الفراغية وبالتحديد (هندسة المسطحات) هي المقياس الجوهري (مضروبا في عامل الزمن) حين الحديث عن أولى أبجديات إدارة الحشود. هو يحدثني، مثالا، أن لكل حاج من بين هؤلاء الملايين حدود هدفه الذي يستغرق منه في هذه الفترة من الزمن بالتحديد، مسافة من النقاط التي يمشي فيها لمسافة كيلومتر ونصف في هذه الفترة. هو مؤمن أن هناك إعجازا خارقا لأنه من المستحيل بمكان أن تستطيع الإرادة البشرية وحدها إدارة هذا الحشد بهذا الضغط من معادلات الزمن والكثافة البشرية ومحدودية المساحة. هو يتحدث، مثلا، عن ما يقارب الخمسة ملايين كيلومتر من مساحة المشي للمجموع، وبالمقابل، فإن كل فرد من بين هؤلاء الملايين يستهدف نقطتين بين بدء المشوار وبين نهايته وفي كلا النقطتين (هنا المكانين) فإن الحاج المعتمر يقضي غرضا ما بين الصلاة وبين حاجاته الشخصية عن بعد. وبالطبع فإن الحديث عن مجرد إدارة هذه الحشود الهائلة لا عن المستلزمات الأخرى في الأمن والصحة والإسكان والاتصال والنظافة وكل ذلك الدعم اللوجستي الهائل لهذه الخدمات التي لا تراها العين ولا تسلط عليها أضواء الكاميرا. وفق هذا يشير الزميل، أستاذ الهندسة المرموق، أن إدارة هذه الحشود وتأمين حاجياتها ـ لوجستيا ـ لمجرد ثلاث ليال بهذا العدد تحتاج من القوة العاملة ومن الدعم اللوجستي ما تستنزفه إدارة ثلاث دورات أولمبية تتناثر على مدى اثني عشر عاما وتحتشد لها إمكانات عشرات المدن. نحن لا نتحدث عن البنى والتجهيزات، بل عن مجرد إدارة الحشود عند المقارنة ما بين الحدثين ومن اللافت بمكان أن الدولة كقطاع عام رسمي تخسر في العام الواحد بحسب تقديرات علماء الاقتصاد ما يقرب من عشرة مليارات في العام الواحد على البنى والمباني وعلى تأمين هذا الدعم اللوجستي، ومن الجميل بمكان، أن الفائض من الاحتياجات المختلفة لملايين الحجاج يزيد بمقدار ما يكفي لنصف مليون إضافي في الليلة الواحدة بحسب ما قالت به وزارة التجارة.
وكل ما مضى ليس إلا توصيفا لجزء من صورة أزحم كيلومتر مربع على الدوام من ظهر هذه البسيطة. ماذا سيكون عليه المستقبل؟ مهما تكن إضاءة الصورة الآن فإن العملية برمتها تحتاج إلى توعية وتنوير من نوع مختلف. ومهما كانت التوسعة في المكان فمن الصحيح أنه المكان سيبقى في المعادلة معاملا محددا وثابتا في مقابل ما سيأتي من نمو متسارع في حجم كثافة التدفق. رقم النمو السكاني الإسلامي سيزداد بالثلث في العقود الثلاثة القادمة وبموازاته نمو ضخم في وسائط النقل وفي سهولة الوصول، وفوق ذلك نمو ملموس في حجم القدرة والاستطاعة. ومن المؤكد تماما أن الملايين من المحتشدين الآن في مساحة الحرم الشريف لا بد أن يعوا بضرورة أن يعطوا فرصة الوصول والتسهيل للملايين الأخرى من القادمين الجدد إلى المكان المقدس. وفي المستقبل، فإن على المؤمن الحق، أن يؤمن أيضا، أن لغيره حقا أيضا. المعامل المتاح هو معامل الزمن، وعلى ملايين المسلمين أن يتراحموا فيما بينهم ليتقاسموه وإن اكتفى المسلم منه بعمرة وليلة. اقرؤوا التراتبية في قوله تعالى: (أن طهرا بيتي...).