نظام التوازن بين السلطات الثلاث الذي قامت عليه الحكومة الأميركية منذ نشأتها قد ينجح في منع أي سلطة من إساءة استخدام السلطة، ولكنه في ذات الوقت يقلل من المرونة اللازمة لاتخاذ القرارات الاقتصادية الحاسمة
يرى المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما أن المشكلة الأساسية التي تواجهها الولايات المتحدة الأميركية حالياً تكمن في تقادم مؤسسات الدولة وعدم قدرتها على مواكبة المرحلة. وفوكوياما صاحب نظرية (نهاية التاريخ) الشهيرة - والتي تستند على فكرة أن كل الأنظمة السياسية في العالم ستنتهي في تطورها إلى اعتناق الديموقراطية الغربية ذات الطابع الليبرالي عاجلاً أم آجلاً - يحاول من خلال رأيه الأخير هذا مناورة النقد الذي تعرّضت له نظريته مؤخراً بسبب أزمات أميركا الحالية رغم أنها تمثل القيمة الديموقراطية التي ينتهي إليها التاريخ حسب رأيه. هكذا ألقى فوكوياما باللائمة على (التطبيق) محاولاً إنقاذ (النظرية). ورغم شهرة نظريته منذ أطلقها أول مرة عام 1989م إلا أنها لم تتعرض لمثل هذا الهجوم المدعم بأمثلة واقعية كما تتعرض له الآن، كأن يبزغ نجم الصين مثلاً مع كونها أبعد دول العالم عن الديموقراطية والليبرالية، وكأن تمارس أميركا إخفاقات سياسية واقتصادية متلاحقة لقرابة عقد من الزمان.
ما تمر به أميركا اليوم لا يؤرقها وحدها بل يؤرق حتى أعداءها. والتحليلات حول حال هذه الدولة ومآلها سوّدت من الورق مقدار ما أشغلت من الأذهان. فكل شخص في العالم يملك تصوّراً شخصياً حول أميركا وما تمرّ به. وتختلف حيادية هذه التصورات ومستوى هذه التحليلات من شخص لآخر بطبيعة الحال، ولكنها لا تخلو من السير في أحد تيارين رئيسين في النهاية: الأول، أن تكون مشكلات أميركا الحالية تحمل جذوراً عميقة متعلقة بفلسفتها الديموقراطية وانفتاحها الليبرالي ورأسماليتها العتيدة. والثاني، أنها مشكلات مرحلية مرتبطة بجوانب تطبيقية وأخطاء تنفيذية، وأن المبادئ الأساسية التي قامت عليها أميركا مؤهلة بأن تتجاوزها كما تجاوزت أصعب منها في تاريخها القريب. وجهة نظر فوكوياما أعلاه تصبّ في هذا التيار الأخير، ويشاركه فيها الكثيرون ممن يرون أن أميركا تمرّ بأزمة ليس إلا، ويعارضهم كثيرون ممن يرون أنها بداية النهاية، وأنه قد حان وقت تسليم الراية التي استلمتها أميركا أوائل القرن الماضي من بريطانيا العظمى إلى دولة أو مجموعة دول أخرى.
على ضوء هذين التيارين الرئيسين من التبريرات والتحليلات يمكن النظر إلى أزمة سقف الدين الأخيرة كمثال حديث للنقاش. تضخم النفقات الحكومية الأميركية مع تراجع الدخل الحكومي اضطر الحكومة للاستدانة بشكل مفرط. والحقيقة أن تضخم النفقات وتراجع الدخل هو مشكلة كلاسيكية قد يواجهها أي اقتصاد في العالم عدة مرات في العقد الواحد، وبالتأكيد أن وسائل حلها كانت مجدولة في أجندات الخزانة الأميركية بسيناريوهات متعددة، غير أن تفاقم النزاع السياسي داخل الكونغرس الأميركي أدى إلى تأخير معالجة هذه المشكلة شهوراً طويلة. وهنا أصبحت أميركا في أزمة سقف الدين تواجه مشكلتين: سقف الدين نفسه، وتأخر صناعة القرار. والحقيقة أن الثانية أفدح وأشد خطراً. فأن تمر أميركا بظروف اقتصادية صعبة هو أمر متوقع ولكن أن تعجز عن اتخاذ قرار بشأنها بسبب خلافات آيديولوجية داخل الكونغرس هو أمرٌ نادر الحدوث، ووخيم التبعات، لاسيما في بلد هائل الحجم مثل الولايات المتحدة.
وجهة نظر فوكوياما الحديثة حول تقادم مؤسسات الدولة في أميركا وتراجع أدائها الحكومي ربما تنطبق على الطريقة التي تعامل بها الكونغرس مع أزمة الدين مثلما أن وجهة نظر خصوم فوكوياما ومعارضي الديموقراطية الليبرالية قد تنطبق أيضاً. فالكونغرس - كمؤسسة تشريعية حكومية - تسير على نظم وآليات تمت صياغتها منذ عشرات السنين في عهد كان فيه الاقتصاد بالذات أقلّ تعقيداً والدولة نفسها أكثر بساطة ووضوحاً. الآن وقد أصبح الاقتصاد عولمياً والمنافسة شرسة والمعادلات متشابكة فمن الطبيعي أن يجد الكونغرس نفسه أقل قدرة على تحليل كل هذا الكم الهائل من المتغيرات السريعة ما لم يطوّر من آليات التشريع واتخاذ القرار والجدل البرلماني. هذا ما يمكن أن يقوله فوكوياما عن الكونغرس وفق تبريره لأزمات أميركا. ولكن معارضيه قد يرون ثغرة واسعة في النظام بأكمله لم تظهر إلا اليوم بسبب طبيعة المرحلة المعقدة. فنظام التوازن بين السلطات الثلاث الذي قامت عليه الحكومة الأميركية منذ نشأتها قد ينجح في منع أي سلطة من إساءة استخدام السلطة ولكنه في ذات الوقت يقلل من المرونة اللازمة لاتخاذ القرارات الاقتصادية الحاسمة التي تتطلبها المرحلة. ولعل المقالة القادمة تسلط الضوء على أزمات المؤسسة التشريعية الأميركية على ضوء هذه الأزمة، مع ذكر بعض الأسباب التي طرحها محللون مختلفو المشارب والتوجهات.