ألفت الانتباه إلى ثلاثة عوامل حقيقية أراها في صالح برنامج نطاقات وتزيد من توقعات نجاحه وهي موضوعية الفلسفة التي يقوم عليها، وأن إمكانيات تطبيقه محسوبة وأهميته الحيوية واضحة، ثم إن تكاليفه على منشآت الأعمال عند الحدود الدنيا

اعتادت وزارة العمل لسنوات طويلة على إصدار قرارات تستهدف توطين الوظائف وزيادة نسبة القوة العاملة الوطنية في إجمالي القوة العاملة بالمملكة. واعتاد قطاع الأعمال والرأي العام على سماع عبارات من قبيل إنه على الشركات أن تلتزم بنسب السعودة التي قررتها الوزارة.. وأن الشركات والمؤسسات غير الملتزمة بمقررات السعودة سوف تلقى كذا وكذا من صنوف العقوبات.. إلى آخر الإنذارات التي لم تخف أحداً إذ انصرف قطاع الأعمال إلى ابتداع أساليب تجنب عصا السعودة بالنسب ولم تنجح تهديدات الوزارة إلا في تشغيل عدد محدود من الشباب وطالبي العمل في وظائف سائق وحارس، وصارت وظيفة المعقب لدى الشركات من الوظائف المهمة حيث توكل إليه مهمة التعامل مع ملف السعودة. وبالمناسبة، فإن أسلوب النسب حقق فشلاً حتى في الولايات المتحدة عندما أرادات حكومة الرئيس نيكسون في السبعينات فرضه على المنشآت والشركات لتوظيف السود والملونين.
وفى هذا الشهر الكريم أطلت علينا وزارة العمل بنيو لوك ناعم جذاب من خلال حملة إعلانات رشيقة مقنعة نافست بها الشركات التجارية على كعكة الإعلانات الرمضانية لتسويق برنامجها الجديد نطاقات.. ولست هنا بصدد شرح البرنامج وتعداد مزاياه فالحملة الإعلانية قدمت ذلك خير تقديم وأنتهز الفرصة لتوجيه القارئ الكريم لأحد النماذج الممتازة لتلك الإعلانات على موقع اليوتيوب http://www.youtube.com/watch?v=lZ-MJuQRtes .
ولكن هدفي من هذا المقال البسيط هو لفت الانتباه إلى ثلاثة عوامل حقيقية أراها في صالح البرنامج وتزيد من توقعات نجاحه وهي موضوعية الفلسفة التي يقوم عليها، وأن إمكانيات تطبيقه محسوبة وأهميته الحيوية واضحة، ثم إن تكاليفه على منشآت الأعمال عند الحدود الدنيا إذا توخينا الإنصاف في الحساب.
من ناحية الفلسفة التي يقوم عليها البرنامج فلأول مرة تنتقل وزارة العمل من مفهوم التمييز العقابي إلى مفهوم التمييز الإيجابي، وبدلا من تبنى أسلوب العصا (العقاب) للشركات التي لا ترغب في تحقيق معدلات معقولة للسعودة، تبنى البرنامج أسلوب منح الجزرة أو الحرمان منها في ظل منظومة توفر سبل الحصول عليها.. كما أن البرنامج يؤسس بشكل غير مباشر لحد أدنى لأجر العامل السعودي، إذ يحفز شركات القطاع الخاص على مراجعة سياسة الأجور التي تطبقها على النحو الذي يمكنها من جذب الشباب السعودي إلى مناطق عمل لا يقدم عليها لأن مستويات أجورها منخفضة على نحو لا يطابق الظروف المحلية وتؤصل بالتالي لديمومة الاعتماد على العمالة الوافدة.
ومن حيث إمكانات التطبيق فإن برنامج نطاقات ليس برنامجا ابتدائيا منفردا ولكنه تتويج لمنظومة متكاملة شاركت الوزارة في صنعها بالاشتراك مع الأجهزة الأخرى المعنية كصندوق تنمية الموارد البشرية والمؤسسة العامة للتدريب الفني والمهني وصناديق ضمان تمويل المنشآت الصغيرة وتخفيض مخاطر الاستثمار.. وبكلمات أخرى فإنه بعكس أسلوب العصا المتمثل في فرض نسب جامدة للسعودة وغياب هياكل تساعد المنشآت على تحقيقها فإن برنامج نطاقات يترك للمنشآت اختيار لون المنطقة التي ترغب في سكناها في ظل منظومة فعالة يفترض أن تحفز المنشآت على الوصول إلى المنطقة الخضراء.
أما من حيث الأهمية الحيوية للبرنامج فلا يعنيني هنا رصد المزايا التي يتيحها البرنامج للمنشآت التي تنجح في تحقيق معدلات خضراء للسعودة ولكن يعنيني أن البرنامج يشكل أحد الأطواق التي تمكن القطاع الخاص السعودي من الاستمرار والنمو بشكل متواصل وآمن. فليس من المعقول (مثلاً) أن يكون إجمالي العمالة بمنشآت المقاولات المسجلة بمكاتب العمل في المملكة قرابة مليونين ونصف المليون عامل منهم 165 ألف سعودي فقط. ومن المستحيل أن يتمكن هذا القطاع من الاستمرار في الاعتماد على العمالة الوافدة لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية مفهومة. كما أن الرخص النسبي الحالي لأجور العمالة الوافدة لن يستمر طويلاً فنحن نعيش ضمن منظومة عالمية من الاتفاقات الدولية تتعلق بمختلف مجالات العلاقات السياسية والاقتصادية ومن أهمها تلك التي تختص بحقوق العمال الوافدين وأسرهم وسوف ترفع هذه المنظومة العالمية من تكلفة العمالة الوافدة بشكل كبير في الأمد المتوسط والبعيد.
أخيرا فإن أهم الاعتراضات التي أثيرت حول برنامج نطاقات هو أن تصنيفاته للقطاعات من حيث قابليتها للسعودة غير منصفة، ويضربون مثلاً بذلك قطاع المقاولات القائم على وجود العمالة غير السعودية في الوقت الذي لا يجد إقبالاً من السعوديين على شغل وظائفه بسبب اعتبارات ثقافية واجتماعية (وثانيا) أن البرنامج يرفع من تكلفة المشاريع والعقود ويفقدها ربحيتها.
والرد على ذلك بسيط ومبرهن عليه بتجارب فعلية معروفة وهي أن الشباب السعودي مثل غيره من شباب الدنيا مستعد لقبول أي مهنة طالما تحقق له الأجر المناسب لظروف العيش في مجتمعه. أما عن تأثير البرنامج على تكلفة المشاريع ومن ثم على ربحيتها فسببه تهافت المقاولين على تقديم تسعيرات متدنية للعروض والمناقصات لا تكفي لتنفيذها بطريقة مرضية مطابقة للشروط والمواصفات ولا تكفي لدفع أجور معقولة للعامل والموظف السعودي.
نقطة أخيرة في صالح برنامج نطاقات هي أن تطبيقه لا يخل بالمراكز التنافسية النسبية للمقاولين. فطالما حرصت وزارة العمل على تعظيم المزايا التي تحصل عليها المنشآت من عملية السعودة فإنها (أي المنشآت) ستسعى بجد لدخول المنطقة الخضراء حتى وإن تحملت بعض التكاليف الإضافية كل بحسب حجمه وقدرته على توظيف السعوديين. ولن تسفر تلك العملية عن أي تغيير في المراكز النسبية التنافسية للمقاولين ولا في فرص فوزهم بالمناقصات والعقود.