تشهد تلك الدراسات البحثية الاجتماعية على تنامي التيار الليبرالي المناهض لإسرائيل في الولايات المتحدة بين الأجيال الشابة من اليهود الأمريكيين غير الأصوليين خاصة

أصدر سبعون من علماء العالم الأسلامي بيانا أدانوا فيه الاعتداء الإسرائيلي على أسطول الحرية في الأسبوع الماضي، ووجهوا نصائحهم لـالأمة لكي تستطيع ردع المعتدي وفك حصاره عن غزة، وطرده من فلسطين.
وصيغ البيان، كالعادة، بلغة دينية تقليدية كثيرا ما استغلتْها الآلةُ الدعائية الإسرائيلية لتضليل الرأي العام العالمي وصرفِه عن محاسبتها على جرائمها المتكررة.
فقد استخدم البيان بعض المصطلحات الإسلامية الشائعة كـالجهاد، والشهادة، وأشار إلى اليهود، وطرد اليهود من فلسطين، في هذه الأجواء المشحونة بالعداء للمسلمين في الغرب، وهو ما يعطي الآلة الدعائية الإسرائيلية الشرسة مزيدا من الوقود لتضليل تلك المجتمعات وتأكيد الخرافات التي غرستْها فيها منذ زمن الدعايات العربية الجوفاء القديمة.
ويصف البيان الجريمة الإسرائيلية الأخيرة بأنها جريمة غدر وبغي وخيانة.
ذلك مع أنها لم تكن غدرا لأن الإسرائيليين لم يخفوا نيتهم في اتخاذ إجراءات حاسمة للحيلولة دون وصول الأسطول إلى غزة.
ولم تكن خيانة لأن العدوان الإسرائيلي لم ينقض اتفاقا مسبقا مع منظمي الحملة. لذلك كان يحسن الاكتفاء بوصف ذلك العدوان بالجريمة.
ويدين البيان، كالعادة، المسلمين والعرب بأن ما أصابهم كان بسبب ذنوبهم. ويدعي بأن الحل الوحيد في إنقاذ الأمة من هذا الذل والهوان هو الرجوع إلى الله تعالى، وتحقيق الإيمان به، وتطبيق شريعته في جميع مناحي الحياة. وهذا اتهام تعميمي ظالم لـالأمة وإدانة لها، وهو تأل على الله تعالى في المقام الأول، وصرفٌ لـالأمة عن تلمس الأسباب الحقيقية غير الغيبية الكامنة وراء تخلفها السياسي والعلمي والعسكري.
ويرى البيان أن من الواجب على أمة الإسلام إقامة الجهاد في سبيل الله تعالى، واستهداف عمق الكيان اليهودي، لطردهم من أرض المسلمين، ورفع الحصار عن غزة وسائر فلسطين.
ولم يبين الآليات التي يمكن أن تتخذها الأمة لتحقيق هذه الأهداف. فهل يمكن أن تتحقق بأن يهب أفراد المسلمين للجهاد بالكيفية التي هبوا بها في حرب أفغانستان والعراق؟ أم هي دعوة موجهة للحكومات لإعلان الحرب على إسرائيل؟
لكن البيان ختم ببعض التوصيات الجديرة بالترحيب. إذ يقول إنه يمكن مواجهة هذا العدوان بـبذل أسباب الدفع الأخرى؛ كالضغوط السياسية، والملاحقة القضائية، والحقوقية؛ للإفراج عن بقية سجناء الأسطول، والسجناء الفلسطينيين من الرجال والنساء والأطفال القابعين منذ سنين في معتقلات اليهود.
وتمثل هذه الفقرة، بغض النظر عن استخدام بعض العبارات فيها، الوسائل الأكثر جدوى التي لم يجربها العرب إلا قليلا، مع أنها كانت من أكثر الوسائل فاعلية في حالات مشابهة ليس آخرها إنهاء حكم التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا قبل سنوات.
ولم يميز البيان بين اليهود والإسرائيليين. ذلك مع أن الواقع يشهد بوجود أعداد كبيرة لا يستهان بها من اليهود، في الغرب كله، لا تشارك إسرائيل مشروعَها الاستعماري، وتقف منها موقفا معارِضا بسبب عنفها ضد الفلسطينيين.
ويعرف القارئ الكريم أسماء كثير من اليهود المشهورين بمناوأتهم للسياسات الإسرائيلية طوال العقود الماضية. وتمتلئ الصحافة الإسرائيلية نفسها، والصحافة العالمية، الآن بمقالات يكتبها مفكرون وكتّاب يهود ضد تلك السياسات وبالأخص عدوانها الأخير على أسطول الحرية.
ويمكن الإشارة هنا إلى واحدة من أهم المنظمات الجديدة التي تعبر، في الولايات المتحدة، عن هذا التوجه بقوة وهي تضم أمريكيين ناشطين من اليهود وغيرهم. تلك هي منظمة شارع جاي J Street التي تصف نفسها بأنها البيت السياسي للأمريكيين المناصرين لإسرائيل والسلام.
وكنت أشرتُ في مقالات سابقة، وأشار كثيرون غيري، إلى أن من أفضل الوسائل التي يمكن للعرب استخدامها السعيُ في الوقت الحاضر إلى التواصل مع بعض الفعاليات اليهودية في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة، لتأسيس قوى ضغط فاعلة على الإدارة الأمريكية، والحكومة الإسرائيلية، لإجبارهما على الاعتراف بالحقوق الفلسطينية والتخلي عن السياسات العدوانية العنيفة المتكررة ضد الفلسطينيين والعرب. ومما يبرهن على وجاهة هذا المسعى التواصلي الظاهرةُ التي كشفت عنها الأبحاث الاجتماعية مؤخرا وتشهد ببروز وعي يهودي جديد في الولايات المتحدة لا ينساق بصورة عمياء، كالعادة، وراء السياسات الإسرائيلية.
فتشهد تلك الدراسات البحثية الاجتماعية على تنامي التيار الليبرالي المناهض لإسرائيل في الولايات المتحدة بين الأجيال الشابة من اليهود الأمريكيين غير الأصوليين خاصة. ويتمثل ذلك في تقديمهم المبادئ الليبرالية في الدفاع عن حقوق الإنسان، ومنها حقوق الفلسطينيين، على الولاء الأعمى التقليدي لإسرائيل المعهود عند الأجيال اليهودية الأكبر سنا.
ويصوِّر ذلك الحراك الاجتماعي المهم النقاشُ الحيوي المستفيض الآن في الولايات المتحدة الذي يمثل طرفا منه، مثلا، ما يكتبه بيتر بينارت، أستاذ الصحافة والعلوم السياسية المشارك في جامعة المدينة في نيويورك، ويمثل طرفه الآخر بعضُ أنصار إسرائيل في الولايات المتحدة، وهو نقاش تحفل به الندوات الإذاعية والتلفازية والصحفية الكثيرة.
ومن أمثلته الأخيرة مقال مفصلي طويل كتبه بينارت (مجلة نيويورك رفيو أوف بوكس، 12 مايو 2010م). وقد انتشر المقال انتشارا واسعا وأشار إليه كثير من المعلقين في الصحف العالمية الكبرى، ومنها الصحف الأمريكية والإسرائيلية (نشرت صحيفة الاقتصادية ترجمة جزئية للمقال، 20 /6 /1431هـ). ويؤكد بينارت أن المؤسسات اليهودية الكبرى في أمريكا كانت، في الماضي، تطلب من الأمريكيين اليهود أن يخلعوا ليبراليتهم عند باب الصهيونية، أما الآن، وهو ما يُرعب هذه المؤسسات، فإن كثيرا من اليهود الشباب يخلعون صهيونيتهم هناك بدلا عن ذلك.
ويرى أن سبب ذلك التغير الواسع يتمثل في عدم رضا الشباب الليبراليين عن سياسة المستوطنات والاحتلال وشعورهم بأن إسرائيل لا تأبه بكرامة الفلسطينيين ولا تريد السلام معهم.
وقد استثارت هذه النتائج حراسَ تلك المؤسسات فهبوا فَزِعين محاولين تفنيدها. ومن ذلك الردودُ المتبادلة بين بينارت والكاتب الأمريكي المعروف جيفري جولدبيرج في مجلة أتلانتك، وما كتبه أبراهام فوكسمان، المدير العام للمنظمة اليهودية المناوئة للتمييز، ردا على مقال بينارت (نيويورك رفيو أوف بوكس، 10 /6 /2010م)، وهو رد وصفه بينارت (في العدد نفسه) بأنه يمثل المشكلة التي تحدَّث عنها هو في مقاله بأوضح صورة.
ويدعو هذا التغير الاجتماعي العميق، الذي يمكن أن يؤثر على سياسة الولايات المتحدة على المديين المتوسط والبعيد تجاه القضية الفلسطينية، العربَ إلى أن يستثمروه.
أما الركون إلى اللغة التقليدية فسينتج عنه إقامة الحواجز بين العرب وهذه الفعاليات المجتمعية الأمريكية الناشئة، خاصة من اليهود.
ومن جهة أخرى فإن الاستمرار في استخدام اللغة الدينية التقليدية لا يسر إلا اليمينيين العقائديين من الصهاينة الذين يستغلونه في دعايتهم الكاذبة لدعم العدوان الإسرائيلي المستمر.