أن تودع أمراً أو شيئاً فهذا يعني بالضرورة أنك تستودعه من بعد إيداع أمانته لديك. وعليه فليس كل توديع توديعاً.

أن تودع أمراً أو شيئاً فهذا يعني بالضرورة أنك تستودعه من بعد إيداع أمانته لديك. وعليه فليس كل توديع توديعاً.
ويبقى التوديع حالة مشحونة بمدّ عاطفي وسياق من التحنان لوقائع المعايشة زماناً ومكاناً في ذاكرة خاصة تستدعى بحسب الرابط المثير لها، وهذا في غالب الأمور مألوف، فكيف والكلام هنا عن توديع تجربة روح عملية عميقة الروابط ثلاثينية الأثر والتأثير (رمضان)! فلا شك أن منحنى التوديع سيختلف أكثر، حيث إن الطفرة الشعورية تكاد تكون فوق مستوى الإدراك والإحاطة، وذلك لما لشهر رمضان من طابع ينزع إلى (الأثير) و(التأثير) في رحلة ممتدة الإدهاش.
ولا يخفى أن لكل واحد منا حكايته مع الشهر قبل إعلان دخوله وبعد إعلان دخوله وحتى ساعة إعلان رحيله، فسألت نفسي: هل من ذوقيات ومواجيد في توديع واستيداع الزائر الكريم؟ وبمعنى آخر: ما هي منازل ودرجات ومقامات التمايز بين المودعين لرمضان؟ وسبب السؤال هو أن النهايات شقيقة البدايات دوماً إلا ما ندر، وبعد التأمل وجدت أن مذاهب المودعين تختلف كلٌ حسب نصيبه من صحبة واستضافة زائره الكريم.
هناك فئة منا ستكون في طيف ومنزلة الاستحياء والخجل، وآخرون في منزلة تحري الصدق بين صدق البلوغ وصدق التوديع، ومنا من سيكون في منزلة ومقام التعظيم واستحضار الطيف الجلالي، ومنا من سيكون في منزلة الدهشة والتحير من الألطاف والفتوحات والعلاقة الجمالية التي عامله الله بها طيلة الشهر الكريم، ومنا من سيكون في حالة من اللاأدريائية حيث يكون هائماً حائراً بين الاستدراك لما فات والإدراك لما هو آت، وهكذا كلنا بين غادٍ ورائح.
حين تتأمل تجد أن هناك منزلة مشتركة بين كل هؤلاء المودعين وهي منزلة (الاستحياء) وقد نتساءل لماذا؟ فأجيب:
قال العلماء في الحياء: (المستحي ينقطع بالحياء عن المعاصي، ذلك أن الحياء يردع الإنسان عن مواقعة السوء، قلّ أو كثر) وعرفوا الحياء بقولهم: (هو الترقي عن المساوئ) إذاً هو أمر أكثر من كونه مجرد الكف أو الترك للمساوئ، بل الترفع عنها والترقي عن سفاسفها وهذه كبرياء حميدة.
وللحياء جمالية تظهر في أنه كما قال العلماء يتولد من رؤية الآلاء (النعم) مع رؤية التقصير، ومن منا لم يكن رمضانه هذا منعم عليه مع تقصيره الكثير!
وهناك قيمة خفية في الحياء هي قول بعض السلف (من استحى من الله مطيعاً استحى الله منه وهو مذنب).
أجل مراتب الحياء التي أشار إليها العلماء هي مرتبة (حياء المرء من نفسه) في أن ينكص على عقبيه ويتوحل بعدما تنظف ويتدنس بعدما تطهر ويرضى بالأقل بعدما أكثر.
اللهم.. أنت أحق من يُستحى منه.