العمل الخيري السعودي - مهما حاول البعض تشويهه سواء من داخله باستغلاله لمآربه، أو من خارجه بالافتراء عليه - يظل إكليل غارٍ على جبين الوطن، فكم من جائع أطعم وكم من عار ألبس وكم من يتيم أفرح
جاءت مجاعة الصومال الحالية لتعيد فتح ملفات مهملة على عدة أصعدة منها السياسي والخيري، والتي عبثاً ما نحاول تخبئة ركامها تحت السجاد. فنحن نتحدث هنا عن بلد عربي مسلم على مرمى حجر من دول الجزيرة العربية الغنية.. يتعرض اليوم لمجاعة وصلت حد الكارثة، وعن جار يحتل موقعاً جغرافياً استراتيجياً ومهماً بالنسبة للأمن الوطني والقومي تنتهبه الفوضى وتحكمه العصابات، ومع ذلك لا يشغلنا كثيراً ولا نذكره في إعلامنا إلا إذا قام قرصان جائع باختطاف إحدى ناقلاتنا النفطية العملاقة!
الحديث عن الصومال ذو شجون، وتناوله من الزوايا السياسية وغيرها أمر مطلوب، ولكنه يظل من باب العلم بالشيء بالنسبة للسواد الأعظم من قراء هذا المقال، الذين يحسون مدى اتساع الجرح الصومالي، لكنهم لا يعرفون كيف يساهمون في تضميده، وفي هذا الحالة تبرز التبرعات الخيرية كسبيل وحيد لذلك في الظروف الراهنة، وتصبح عملية التبرع الموضوع الأكثر إثارة لاهتمام هؤلاء حين يأتي الحديث عن الصومال، ولكن على ما يبدو حتى هذا الأمر ليس لا ميسراً ولا واضحاً.
تستطيع أن تقول ما تشاء في عيوب المجتمع السعودي كأي مجتمع إنساني آخر، لكن هناك حقيقة لا يُختلف عليها وهو أنه شعب معطاء تعود على البذل منذ الصغر، وهي ميزة جديرة بالفخر والاحترام، ولهذا كان من الطبيعي أن تنشأ في بلادنا عشرات الجمعيات والمؤسسات الخيرية. وقد كنا نتبرع لها بالنقد والعينيات منذ أن كنا صغاراً، وكانت الإعلانات ودعوات التبرع لإخواننا المسلمين - ولا سيما في شهر رمضان - تغمر شاشة قناتنا اليتمية آنذاك بكثافة. بل وأتذكر أنه في تلك الفترة ظهرت عادة جميلة وهي تبرع النساء بمهورهن أو جزء منها لصالح الجهاد الأفغاني، أو لضحايا البوسنة فيما بعد، وكان كل ذلك يتم برعاية كريمة من الدولة، وعبر قنوات التبرع الرسمية والتي على رأسها هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، والندوة العالمية للشباب الإسلامي.
هكذا كانت الصورة حتى جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حين وُضعت البلاد بأكملها تحت المجهر من قبل الإعلام الغربي والدوائر الرسمية في عواصمه الكبرى، أصبحت مناهجنا وجمعياتنا ومساجدنا وطريقة حياتنا ككل متهمة بالإرهاب أو بالترويج له ودعمه مادياً أو معنوياً حتى يثبت العكس، وأعلنها بوش الابن بأنه إن لم تكن معي فلا بد أنك ضدي! وفي ظل هذا الأجواء الديموقراطية بدأ الكل يدلي بدوله، والسعوديون قبل غيرهم، فالبعض كان يتحدث بمنطق وقلبه على البلد وعلى صورة الإسلام، فطالب بمراجعة الخلل الذي قد يكون موجوداً، ومن ذلك مراجعة المناهج والتدقيق في الحسابات البنكية ومنهجية العمل في الجمعيات الخيرية، منعاً لأن تقع هذه الأموال الطيبة في الأيدي الخطأ، وهي مراجعة كان يجب أن تأتي بالفعل في وقت أبكر. آخرون، كان الأمر بالنسبة لهم -ولا يزال- حين نتحدث عن المناهج أو العمل الخيري تصفية حسابات مع تيار يخالفهم، ووجدوها فرصة سانحة لركوب موجة الإعلام الغربي، وكانت أقوى مطالباتهم: تجفيف منابع الإرهاب المادية والمعنوية، وهو أمر لا خلاف عليه على شرط أن تكون هذه هي صدقاً منابعه.
محصلة ذلك كله هو أن أيدي العمل الخيري السعودي في الخارج قد قُيدت، ولم يساعد على تخفيف هذا الضغط ما ذُكر عن تورط عدد قليل من الجمعيات أو بعض القائمين عليها في ممارسات مالية مشبوهة. المحزن في الموضوع كله هو أن المتبرع والمحتاج تُركا بلا بديل! فهناك سعودي لسان حاله يقول: أنا مقتدر مادياً..وقد تبرعت لإخواني في الداخل لكنني لم أغفل عن إخواني في الخارج..وأريد أن يصل مالي إلى مستحقيه..فكيف السبيل؟ وهناك محتاج في الصومال يتألم جوعاً وحسرة يسأل: لماذا غاب أبناء الحرمين؟ وما ذنبي أنا؟
العمل السعودي الخيري كان كبيراً بالفعل، ويغطي مناطق شاسعة من العالم الإسلامي، وفي حين تم استهدافه ومطاردته، فإن الجمعيات التنصيرية التابعة للكنائس تُركت لتمارس نشاطاتها بكل حرية، فلا يعتقد كثيرون أن هناك مشكلة حين يعطي المبشر الإنجيل بيد ورغيف الخبز بيد أخرى، في حين لو فعل ذلك مسلم مع القرآن لقامت القيامة فهذه خطة إرهابية لنشر العقيدة الجهادية!
الغريب أن الجمعيات الإسلامية سواء في دول الجوار مثل الكويت أو حتى في أوروبا نفسها ( Islamic Relief مثل مؤسسة الإغاثة الإسلامة البريطانية) ما زالت تعمل في وضح النهار في المناطق المنكوبة، ومازالت دعاياتها (ولا سيما الكويتية) تذكرنا بالزمن الجميل. فكيف نجت جمعياتهم الإسلامية من مصير جمعياتنا؟
الزميل الأستاذ ناصر الصرامي طرح مقالاً جيداً في صحيفة الجزيرة هذا الأسبوع بعنوان: جمعياتنا الخيرية والشفافية!، تحدث فيه أزمة العمل الخيري السعودي أيضاً بعد أحداث سبتمبر، وأرجع المشكلة في جزء كبير منها إلى غياب الشفافية المالية لدى هذه الجمعيات، وطرح التساؤل التالي: هل بالفعل مازال العمل الخيري والإغاثي يواجه أزمة ثقة وشفافية؟ ولماذا لا تنشر الجمعيات قوائمها المالية؟ مضيفاً أن الشفافية هي طريقها لممارسة دورها الإنساني الخيّر، عليها ألا تخاف من أي رقابة أو مطالبات بالشفافية، لأن ما تقوم به يسمو ليكون تحت ضوء الشمس بتفاصيله ونواياه الطيبة.
وأنا أضم صوتي إلى صوت زميلي هنا، فإذا كانت الشفافية المالية هي العائق الأكبر في وجه العمل الخيري فلم لا؟! ثم يُفترض أن تكون هذه الجمعيات هي السباقة، ليس فقط لنفي التهمة عنها بتقديم هذه القوائم، بل لتقديم حلول إدارية ومنهجية خلاقة تمكنها من ممارسة دورها في هذه الظروف الصعبة.
العمل الخيري السعودي، مهما حاول البعض تشويهه سواء من داخله باستغلاله لمآربه، أو من خارجه بالافتراء عليه، يظل إكليل غارٍ على جبين الوطن، فكم من جائع أطعم وكم من عار ألبس وكم من يتيم أفرح، وهو بالأساس ليس منة بل واجب، وما نريده الآن هو الاستفادة من دروس الماضي للارتقاء به من كافة الزوايا. هذه القضية ليست من باب الترف، فالخالق وحده يعلم كم طفلاً صومالياً يموت ساعة كتابة هذا المقال وساعة تقرؤونه..ووالله لا يؤمن من بات شبعان وجاره يموت جوعاً..حقيقة لا مجازاً.