وشكوت لصديقي الأغلى وطأة الأحمال على النفس واستأذنته أن يغفر لي فقر الوصال، لأن الأنفس المضطربة تحتاج الهدوء بمثل ما تحتاج بعض العزلة، لأن كسر النفوس مثل الجراح التي لا تبرأ إن دارت عليها الأصابع. سمعت صوته فبكيت، ولا تثريب على المرء من البكاء ولكن بشرط إذن المحب.
وأبو ـ الشوق ـ الأغلى يكتنز في صدره أحمال الجمال والجبال حتى وهو يقول لي ما قاله أبو ذؤيب الهذلي: وتجلدي للشامتين أريهموا/ أنني لريب الدهر لا أتضعضع. عاش هذا الصديق سواد حياته الأخيرة يحمل المأساة. احتفلنا ذات شتاء بارد من أيام الغربة في الغرب بابنه البكر وكأنه هدية ـ المجموع ـ من فضل الولي الجامع. سار على قدميه وشب به الطوق أو عنه، لا أدري، وحين استأذنت حبوب الشباب أن تطفو على وجهه الوسيم، كانت آلة الزمن المخيفة ـ تدهسه ـ في عرض الشارع حتى أصبح نصفه الحي الأعلى يسحب نصفه الأسفل ميتاً من الشلل. وبالطبع شحذنا لهذا الأستاذ الجامعي أحياء الأرض وكأننا نشحذ طوبها الميت من خلوة الضمير. هو مؤمن أن ما مات من الجسد لن يعود ولكنه ـ يعلل ـ النفس بآمال الوهم ولو على الأقل أن يتدرب ـ الابن ـ على الواقع المر الجديد وأن يتهيأ كي يكون الجزء الميت من الجسد خفيفاً على النصف الحي. هؤلاء الذين يذهبون بالقطط إلى عيادات البيطرة في منتجعات الصقيع الأبيض. هذا الأستاذ الجامعي الذي يكفكف عبرته تجلداً لم يجد للعبرة من عاثر. ها هي آخر شعرات لحيته السوداء تعبر إلى الزمن الأبيض وما زال يستمطر الأوهام ويستحلب الآمال، وأي حياة لمن هم في مشواره وسيرته وسنه وما زالوا يضنون عليه بأغلى آماله في الحياة: أن يقطع الشك باليقين وأن يذهب بابنه نصف شهر إلى عيادة تأهيل.
شكوت إليه نفسي فلم يشكُ أبداً مما في نفسه. كان أبو الشوق ـ من القلائل الذين كتبوا أشعارهم من حروف ثلاثة لا تزيد عن ـ وطن ـ ولكن ما هي الأوطان إن لم تقف معك بشيء مما تستحق، لماذا يهرب البعض بالأوطان عن أهلها في وقت النجدة؟