أنظر إلى حالنا ـ نحن المسلمين ـ كم نحن بائسون، لا يوجد في الدنيا من هو أتعس منا، حياتنا في ظل العقلية النمطية التي نمتلكها أصبحت جحيما لا يطاق، صراع وحروب ومظاهرات واعتصامات وصدامات مستمرة، لا أول لها ولا آخر، ما أن نخرج من حفرة حتى نقع في أخرى ألعن منها، قاتلنا الامبريالية الغربية لفترة باسم الحرية والاستقلال ولما ظننا أننا تخلصنا من شرها، وطهرنا الأرض من دنسها، بدأنا بمحاربة أذنابها من الجواسيس والخونة وأقمنا لهم مشانق في طول البلاد وعرضها، ولما تيقنا أننا انتصرنا عليهم، فتحنا جبهة جديدة مع عدو لدود وهوأنفسناودخلنا معها في حرب ضروس لاهوادة فيها! فقتلنا منها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب إنسان متحضر، ففي غضون يوم أو يومين أزهقنا في مدينة (حماة) السورية وحدها أربعين أو ستين وفي بعض روايات الثقات ثمانين ألفا من أرواحنا البريئة من دون أن يرف لنا جفن، وفي العراق طمرنا 180 ألف كردي تحت الأرض باسم الوطن والوطنية والحفاظ على وحدته الزائفة في حملات سميناها زورا وبهتانا بـعمليات الأنفال، والحبل على الجرار، وما زلنا نقدم للعالم أروع الأمثلة في كيفية معاقبة الذات الأمارة بالسوء !..
كنا نعتبر فترة الحكم الملكي من أسوأ الفترات التي مررنا بها، ويجب إزالته والقضاء عليه، فحركنا نحو معاقله جنودنا البواسل وهم على صهوات دباباتهم، فانقضضنا عليه، وأقمنا مكانه حكما وطنيا يقوم فيه الشعب بإدارة نفسه بنفسه أو هكذا توهمنا، وكم كنا خاطئين، لأن من ظنناه (موسى) أصبح (فرعون)، ولكن بزي عسكري صارم، لا يعرف الرحمة، يصدر تعليماته المشددة وعلينا تنفيذها من دون كلام أو توجيه سؤال نفذ ثم ناقش، فنفذنا أوامره كما أراد، ووضعنا أنفسنا تحت تصرفه، يفعل فينا ما يشاء، ونحن فرحون، ونصفق له ونقلده ونرقص له كالقرود، علنا نصيب بعضا من بركاته، فكان كريما معنا غاية الكرم وأغدق علينا بركاته كلها، فتحولت حياتنا في ظل قيادته الحكيمة إلى جبهات قتال ومواجهات دائمة تحسبا لخطر وهمي قادم من عدو لا يملك ملامح معينة، مجردشبح صوره لنا على أنه الحقيقة التي يجب أن نواجهها كل لحظة، فصدقناه، وبصمنا له بالعشرة أن السيد الجنرال قائد ملهم!.
وكان من نتائج هذه التجارب القاسية أن أصبنا بأمراض نفسية خطيرة وتحولنا إلى حطام بشري لا يصلح لشيء، لسوء حظنا العاثر أننا ضيعنا شطرا كبيرا من أجمل حياتنا مع أناس لا يعرفون غير ما تعلموه في قاموسهم العسكري من مصطلحات المجابهة والسحل والقتل بدم بارد، مجرد أدوات تدميرية مبرمجةروبوت، تصور كيف يكون شكل الحياة عندما تحكمك آلة صماء جامدة صممت للقتال أصلا.. فصرنا نبكي ونولول ونَحنُّ إلى العهد الملكي ونتمنى أن يعود ثانية، وفي المقابل نلعن الانقلاب والانقلابيين واليوم الذي رأيناهم فيه و.. لكن بعد فوات الأوان.
جربنا كل الأفكار والمبادئ وركضنا وراء كل الأحزاب والحركات والاتجاهات السياسية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من القومية إلى الإسلامية إلى الشيوعية، وجربنا العلمانية والدكتاتورية، لم يبق فكر ولا نظام شمولي بوليسي أو انقلابي لم نجربه ولم نخض في غماره، ولكنا فشلنا في كل المشاريع التي أقمناها فشلا ذريعا وهزمنا في كل الصعد شر هزيمة؛ هزمنا قوميا و هزمنا إسلاميا، وكذلك هزمنا إنسانيا، عندما لم نستطع أن نجاري الدول المتقدمة في نظامها الإنساني المتحضر الرائع، ونحافظ على أبسط قواعد حقوق الإنسان، فبدأنا ننحدر إلى الدرك الأسفل من الهاوية ونعود القهقرى إلى عصور ما قبل التاريخ ونسلك طرقا أخرى أخزى وأشر وننجرف في وحل الطائفية والإرهاب، فبعد أن كنا نتقاتل على أساس الإسلام وباسم القومية والتفوق العرقي، بتنا نتقاتل على أساس الهوية والاسم، أو حتى من دونهما ولمجرد القتل من أجل القتل، وليس لهدف محدد منتهى الهمجية.. بينما نحن في هذه الحالة المزرية، ندور في ساقية الجهالة والتخلف كالثور المعصوب العينين، وننشغل بأمور تافهة تضر ولا تنفع، وتدمر ولا تصلح، تستمر الماكينة الغربية في إنتاج الحضارة والمعارف البشرية ونشر الثقافة والقيم الإنسانية، فلا يمر يوم دون أن تضيف شيئا جديدا للإرث الإنساني ورقيه، وتبدع في مجال ما خدمة لمجتمعاتها التي وصلت إلى قمة الرفاهية، في حين ما زلنا نعيش في الحضيض، ونغوص إلى الهاوية، وصدق الشاعر عندما قال:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله .. وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم