العامل الوافد - باختلاف طبقته العمالية - يستلم راتبه وهو داخل واحد من أكبر الأسواق الاستهلاكية في المنطقة، ورغم ذلك فإنه لا يكاد ينفق منه عُشره محلياً، ويقوم بتحويل الجزء الأكبر من راتبه إلى الخارج

سلبيات تضخم العمالة الوافدة في السعودية متعددة بدءاً من الإسهام في رفع معدلات البطالة وتكريس ثقافة الاتكالية وتسريب المال خارج حدود الاقتصاد. الإيجابيات التي جنتها السعودية من العمالة الوافدة منذ تأسيسها - مثل خفض تكاليف مشروعات البنى التحتية، وتسريع عجلة الإنتاج والتنمية، ونقل الخبرات الأجنبية - أصبحت تتضاءل تدريجياً قياساً على سلبياتها. هذا يعني أن الإفراط في استقدام العمالة الوافدة إلى الحد الذي قارب فيه عددهم ربع السكان تقريباً هو أمر كان يمكن تبريره في مرحلة البناء والتأسيس ولكن ليس في مرحلة التنمية والتطوير. قد تشيّد بيتك بمساعدة خارجية ولكن ليس بوسعك أن تدير بيتك بنفس الطريقة. الوضع الحالي في السعودية يتطلب تخفيض هذه الجرعة المتزايدة من العمالة الوافدة قبل أن يقع الاقتصاد في حالة إدمان مستعصية يؤدي معه سحب هذه العمالة دفعة واحدة إلى آثار انسحابية موجعة. وهذا حتمٌ محتوم بطبيعة الحال، فحتى لو تعددت البلدان التي يمكن استقدام العمالة منها فإنه لا يمكن أن تظل منخفضة التكاليف إلى الأبد مثلما أن السعودية - مجتمعاً واقتصاداً - لا يمكن أن تظل قادرة على استيعاب هذه النسبة المتزايدة من العمالة الوافدة دون أن تقع في مشكلات جذرية على مستويات عدة.
هذه المقالة تركز على أحد هذه الآثار الاقتصادية السلبية للعمالة الوافدة - وهو تسرب مدخولاتها خارج نطاق الاقتصاد السعودي - باعتباره أحد المسارب الثلاثة الكبرى التي تتسرب منها الثروة السعودية كما ذكرت في مقالة سابقة (الخميس 28 يوليو 2011) وهي السياحة والعمالة والاستثمار. ولكي نعيد قراءة المشهد فإن العامل الوافد - باختلاف طبقته العمالية - يستلم راتبه وهو داخل واحد من أكبر الأسواق الاستهلاكية في المنطقة، ورغم ذلك فإنه لا يكاد ينفق منه عُشره محلياً، ويقوم بتحويل الجزء الأكبر من راتبه إلى الخارج في نفس اليوم. هذه الأموال الطائلة قاربت اليوم مائة مليار ريـال سعودي تتسرب سنوياً خارج الاقتصاد. ووفق أسعار النفط الحالية، فإن هذا يعادل سرقة حوالي 300 مليون برميل نفط سعودي من باطن الأرض كل عام. الفرق أن النفط - في حال سرقته - فإنه سيثير فضيحة وطنية كبرى تسارع الجهات المسؤولة لتداركها اقتصادياً وعسكرياً إذا اقتضى الأمر، بينما أن الأزمة التي تقع أمام أعيننا كل يوم، وبتحويلات بنكية شفافة، لا تثير حفيظة مسؤول ولا تقدح فكرة حل حاسم.
لماذا تقوم العمالة الوافدة بتحويل رواتبها عشية استلامها؟ أولى الإجابات حضوراً هو أن هذا المال يتم تحويله لتعتاش عليه عائلة الوافد في بلده. الأسباب الأخرى تتراوح بين الاستثمار الخارجي بالنسبة للطبقات العمالية الأعلى دخلاً، أو الادخار بعملة يجدونها أكثر أمناً من الريال السعودي، إلى آخر ذلك من الأسباب الداعية إلى هذا التحويل السريع. وبالتأكيد أنه لا يمكننا إزاء السبب الأكبر وراء التحويلات العمالية أن نفكر في حل لإقناع العامل الوافد بالإنفاق المحلي دون أن نفكر في جلب عائلته. ردة الفعل الأولية أمام هذا الاقتراح قد تكون متشككة ومتحفظة. فتسهيل جلب أسر العمالة الوافدة سيؤدي إلى تضاعف أعدادها (المتضخمة أصلاً) في السعودية، مما سيسبب ضغطاً شديداً على الخدمات العامة من مواصلات وعلاج وتعليم وغيرها، بالإضافة إلى تكوين بؤر اجتماعية غير متجانسة ذات إشكالات ثقافية وأمنية ، وأيضاً فإن عائلة الوافد - إذا وفدت معه - فإنها تزيد من تكلفة الاستقدام على صاحب العمل مما سينعكس على أسعار السلع والخدمات التي يقدمها القطاع الخاص للمواطن. كل هذا صحيح في حال أن الجهات السعودية المختصة اتخذت هذا القرار بشكل مستقل وليس في إطار منظومة اقتصادية شاملة تستوعب هذه الزيادة المفاجئة في أعداد المقيمين. ولكن السؤال هنا هو: كم تبلغ التكلفة الإجمالية لكل ما سبق على كاهل الحكومة والشركات والمواطن؟ وهل هي تكلفة مبررة إذا قارنّاها بمائة مليار ريـال سعودي تتسرب خارج الاقتصاد سنوياً؟
لنطرح السؤال بشكل أكثر مباشرة: هل تكفي مائة مليار ريـال (سنوياً!) لتأسيس مدارس ومستشفيات ومشاريع طرق ودعم للسلع الأساسية بما يستوعب هذه الزيادة السكانية الناتجة عن أسر العمالة الوافدة؟ بالتأكيد أن الإجابة هي نعم دون أن الحاجة إلى دراسات موسعة. فهذا المبلغ الهائل يعادل ربع ميزانية السعودية التي تغطي نفقات دولة بأكملها، أفلا يكفي لاستيعاب زيادة سكانية تقدر بـ 15% تقريباً؟ ناهيك عن العائد الاقتصادي الإيجابي غير المباشر لهذه الزيادة من حيث زيادة معدلات الاستهلاك المحلي والاستفادة من رواتب هذه العمالة داخل حدود اقتصادنا الوطني. كل هذا يمكن تحقيقه عن طريق هندسة نظام ضريبي وقانوني متقن يشجع هذه العمالة الوافدة على الاستهلاك المحلي والشعور بالأمان الاقتصادي أثناء وجودهم في السعودية، ويلزم الشركات بتوفير ظروف ملائمة للعمالة الوافدة تمكنهم من جلب أسرهم كالتأمين الصحي والسكن. هذا المشروع الكبير، الذي قد يشكّل تحولاً جذرياً في البنية القانونية والاقتصادية والاجتماعية التي يرتكز عليها استقدام العمالة الوافدة، قد يثير جدلاً بالتأكيد بين مؤيد ومعارض. وهو - ككل خطوة اقتصادية جريئة - يتأرجح بين التشاؤم والتفاؤل حسب توقعات كل محلل اقتصادي، ولكن سيتفق الجميع حتماً أن إعادة تدوير مائة مليار ريال سعودي سنوي داخل الاقتصاد لا يمكن أن تعود بغير النفع العام.