الفن في المملكة لا وجود له كنشاط اقتصادي. الفنانون السعوديون ينتجون كل أعمالهم في الخارج، ويستفيد من هذا الإنتاج بكل ما يتفرع منه من منافع وفرص عمل أبناء وبنات تلك الدول

لنتخيل أن الرياضة كما هي عليه اليوم في بلادنا لم تحدث، وأن المجتمع اعتبرها غير مستحبة أو محرمة منذ البدء. هذا يعني بالتالي أنه لا وجود للاتحاد السعودي لكرة القدم ولا للأندية ومنشآتها وعقود صيانتها، والبطولات السنوية المحلية والإقليمية والدولية والتغطية التلفزيونية ونحو ذلك. ولنتخيل أيضاً أن هناك من يطالب بالسماح بمزاولة كرة القدم محلياً، وتأسيس الملاعب والأندية وتنظيم الدوري ونحو ذلك كما هو الحال في بقية دول العالم. المطالبة بالاحتفاظ بمواهبنا في بلادنا بدلاً من هروبها لممارسة الرياضة في الخارج. من المؤكد أننا سننقسم في رأينا حول الكرة في المملكة إلى طرفين، كما هو الحال اليوم مع من يطالب بتأسيس دور للفن والدراما والسينما في المملكة. الأول سيقول ماذا أفادت الرياضة دولا كالبرازيل أو مصر؛ كما يقال اليوم ماذا أفادت السينما دولة كمصر أو الهند؟ والطرف الثاني سيصمم على رأيه ويستمر الجدل إلى ما شاء الله.
الذي لا يمكن الخلاف حوله هو أن الرياضة كما هو الفن تعتبر جزءا هاما من مناشط التنوع الاقتصادي في أي مجتمع، وبالتالي لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل دورها في الكثير من تفرعات التنمية في بلادنا. هناك فيما يتعلق بالرياضة المقاولون ممن شيدوا أو سيشيدون المنشآت الرياضية الكبرى، هناك بالتالي شركات صيانة لهذه المنشآت، هناك الاحتراف ودور المحامين والوكلاء في تنظيم العقود، هناك أندية وموظفون يستلمون رواتب ثابتة، هناك أيضاً صحافة وإعلام وتغطية حيّة تهتم كثيراً بهذا النشاط، وتدفع في سبيل كسب حقوق البث ملايين الريالات. هذا كله فضلاً عن البطولات وأثر ذلك على المناشط السياحية في المدن التي تستضيفها، بما ينعكس على قطاع الضيافة والسفر في الاقتصاد بشكل عام.
وبينما الرياضة كانت أكثر حظاً عندما حلق بها الراحل الكبير فيصل بن فهد رحمه الله إلى رحاب كبرى وعالمية ننعم اليوم بمنتجها؛ نجد الفن في المملكة لا وجود له كنشاط اقتصادي. الفنانون من المملكة ينتجون كل أعمالهم في الخارج، ويستفيد من هذا الإنتاج بكل ما يتفرع منه من منافع وفرص عمل أبناء وبنات تلك الدول. لهذا فإن الدعم اللوجستي وهو الأهم في حديثي هذا لا يستفيد منه أحد في المملكة، كون المملكة أصلاً لا تعير لهذا الفن أي أهمية، ولا توجد بها منشآت فنية، ومع هذا ومع كل المنافع الاقتصادية، وحاجتنا الملحة إلى الترفيه وإيجاد فرص عمل جديدة نستمر في تجاهلنا لهذه الصناعة.
القيمة الأخرى للفن هي تنظيم سلوكيات المجتمع ونقد سلبياته وتأصيل مبادئه. في بلادنا الغالية على نفوسنا لا يمكن تجاهل الفوضى، وغياب النظام والانضباط في سلوكياتنا بشكل عام. نقد هذه المشاهد في الصحف أو حتى من خلال مسلسلات كوميدية خفيفة كمسلسلات رمضان والتي لا نشاهدها إلا مرة في العام لا تكفي بنظري في تقويم بعض الأخلاقيات المعوجة، أو نقد السلبيات. فيلم سينمائي واحد ضخم، معد له بطريقة احترافية عالية، ويحمل الإثارة والتشويق يحكي ـ على سبيل المثال ـ عن معاناة امرأة تمرمطت بين أروقة المحاكم لسنوات، رغبة في الخلاص من زوجها والظفر بابنتها أو ابنها، قد يحرك ضمير الوطن بأسره، وبالتالي يرفع من الحاجة إلى تعديل النظام بأسرع وقت، تجاوباً مع هذا التأثير الكبير. وماذا عن تاريخ بلادنا الكبير الذي وضع أساسه بكل اقتدار موحد هذه البلاد الملك الراحل عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود؟ هل سنتردد في إنتاج فيلم سينمائي ضخم عن سيرة هذا الرجل العظيم لينهل منها أبناء وبنات هذا الجيل وتبقى هذه الأعمال موثقة لتاريخ لا يمكن نسيانه أو تجاهله؟
ومن هنا فإن الحديث عن السينما أو الإنتاج الفني بشكل عام لا يعني عرض أفلام ساقطة، أو إباحية كما قد يخشى البعض، بل يعني في دولة كالمملكة تأسيس بيئة سعودية للإنتاج السينمائي متفقة مع عاداتنا وشرائعنا وقيمنا الإسلامية. تماماً كما هو الحال مع الرياضة، فنحن في المملكة لا نسمح مثلاً بممارسة الفتيات لرياضة السباحة أمام الجماهير العامة. في الفن سنخلق بيئة ـ بحول الله ـ قادرة على منافسة مثيلاتها في الدول العربية التي سبقتنا، كيف لا نستطيع تحقيق ذلك ونحن ولله الحمد ننعم بكل القدرات المؤهلة لذلك من بشرية ومادية وثقافية. ها هو اليوتيوب بدأ يفرخ مواهب سعودية تعمل من وراء الأسوار، وتمارس كل أنواع النقد والفكاهة. لنضم هؤلاء إلى عجلة التنمية، وندعمهم ليطوروا من منتجاتهم علناً وليستفيد منها غيرهم أيضاً.
وما دام الحديث خيالاً فلنتخيل إقامة أكبر مدينة للإنتاج السينمائي في العالم العربي بالقرب من مدينة العلا ومدائن صالح. الفائدة الأولى الناتجة من تصور كهذا هي بناء المطار الجديد في تلك المنطقة، وما يحمل معه من فرص عمل جديدة، يلي ذلك هرولة المستثمرين لبناء الفنادق، وتطوير وسائل النقل، وتطوير التغذية وبناء المدن الترفيهية وما إلى ذلك. سينتج في النهاية منتج جديد من العدم، سننظم ما قد نطلق عليه مهرجان مدائن صالح للسينما العربية، ستصبح هذه المنطقة مركزاً عالمياً للمؤتمرات والندوات الكبرى، هذا المنتج قد يتطور ليستوعب في القادم من السنوات أكثر من نصف مليون وظيفة ولا أبالغ.. كيف لا وهو يجمع التاريخ القديم والحاضر الواعد.
الهدف الرئيسي وراء هذا الطرح ليس الترف، بل هو الحاجة الملحة لتنويع مصادر الدخل للأفراد من خلال خلق فرص جديدة للعمل. الهدف أيضاً احتضان المبدعين والمبدعات من المواطنين الذين وهبهم الله القدرة على التمثيل وتقمص الأدوار. احتضانهم في بلادهم والاستفادة من مواهبهم وإفادة الغير منها لما ينفع تاريخنا، ولما يرفه عن أبنائنا وبناتنا. المملكة في النهاية ـ وسواء شئنا أم أبينا ـ مقبلة على الكثير من التحديات المتصلة بإيجاد فرص عمل للأبناء والبنات. بعد أقل من سبع سنوات قد يرتفع رقم البطالة إلى أكثر من أربعة ملايين مواطن ومواطنة. أين سيعمل هؤلاء إذا لم نلجأ إلى الإبداع الخلاق المتميز في إيجاد هذه الفرص الجديدة الغائبة اليوم؟ أين سيعمل هؤلاء إذا فشلنا في بناء القاعدة السياحية المنتظرة، والفن كما هي الرياضة بكل تأكيد جزء من النشاط السياحي؟
سبق وأن قلت إن الطائف والباحة وأبها لا تقل أهميتها الاقتصادية عن أهمية حقل الغوار النفطي. الذي ينقصنا في استثمار هذه المكانة هو الابتكار. فلنتحول إذاً إلى دولة تبحث عن الابتكار، وتواجه تحديات المستقبل، وتبدع في تنويع الأنشطة الاقتصادية وخلق الفرص الواعدة بكل ثقة واقتدار. وكما قيل الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.