في زمن الاستبداد من ناحية والضعف من ناحية، ليس للصامت والمتكلم، إلا أن ينتظرا كيف حكم وسيحكم الله بين المتاجرين بالحق والمتاجرين بالباطل

وأنا ألملم عناصر أفكار مقالي الأسبوعي المعتاد، دخل أذني وبقوة ما تردده أمي الحنون ـ حفظها الله ـ عندما يثير انتباهها أمرٌ معين: يا ولدي.. ربك يقول: {أليس الله بأحكم الحاكمين}!؟. جلسنا ـ أمي وأنا ـ قبل أيام، نتابع أحد المشاهد الإعلامية، ومرة أخرى سمعتها تردد بصوت متهدج ـ التهدج: التردد والتقطع والارتعاش ـ الآية الشريفة ذاتها.. والغريب أن ترديدي وترديدها للآية كانا في وقت واحد؛ فقلت لمن حولي سأغير مقالي إلى الكتابة عن موضوع آخر يعتمد على (أليس الله بأحكم الحاكمين). فتشت سريعاً عن عظمة هذه الكلمات الربانية؛ فوجدت الشيخ محمد الطاهر بن عاشور الإدريسي ـ ت: 1393هـ / 1972م ـ يقول في تفسيره (التحرير والتنوير) الذي يقول عنه المختصون إنه محصلة خمسين سنة من العمل، ضمنه الشيخ نظرته التجديدية والإصلاحية، وميزه بعدم الاتكال على التراث العلمي للتفسير. يقول ـ رحمه الله ـ عن الاستفهام في قوله تعالى (أليس الله بأحكم الحاكمين): إنه استفهام تقريري. و«أحكم» يجوز أن يكون مأخوذاً من (الحكم) أي أقضى القضاة، ومعنى التفضيل أن حكمه سبحانه وتعالى أسد وأنفذ. ويجوز أن يكون مشتقاً من (الحكمة)، والمعنى أنه أقوى الحاكمين حكمةً في قضائه بحيث لا يخالط حكمه تفريط في شيء من المصلحة.. ويضيف قائلاً: لما أخبر سبحانه أنه أفضل الذين يحكمون، علم أن الله يفوق قضاؤه كل قضاء في خصائص القضاء وكمالاته، وهي: إصابة الحق، وقطع دابر الباطل، وإلزام كل من يقضي عليه بالامتثال لقضائه والدخول تحت حكمه. كما رجعت إلى الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي ـ عضو هيئة كبار العلماء، توفي في سنة وفاة الشيخ ابن عاشور ـ في تفسيره (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) الذي يصفه العارفون بأنه كتابٌ يبحث في علم من علوم التفسير؛ وهو تفسير القرآن بالقرآن، أو التفسير بالمأثور، أي توضيح المعنى الوارد في الآيات من آيات أخرى أو بعض الأحاديث، والمتميز بأنه لا يتعرض للرأي إلا في القليل النادر أو حيث يحتاج إليه في هذا المجال. فوجدته يقول ـ رحمه الله ـ إن السؤال هنا للإثبات، وهو سبحانه بلا شك أحكم الحاكمين. ويتوافق الشيخان في أن (أحكم) أفعل تفضيل من الحكم أي أعدل الحاكمين، أو من الحكمة أي في الصنع والإتقان والخلق، فيكون اللفظ مشتركاً، ولا يبعد أن يكون من المعنيين معاً، وإن كان هو في الحكم أظهر، لأن الحكيم من الحكمة يجمع على الحكماء.. ثم يبين الشيخ الأمين أنه لا تعارض بين المعنيين، ويذكر كلاماً نفيساً نصه الحكيم لا بد أن يعدل، والعادل لا بد أن يكون حكيماً.. ويذكر بعد ذلك الآيات التي تؤكد ما ذهب إليه، فيذكر قوله تعالى: (أم نجعل ?لذين آمنوا وعملوا ?لصالحات ك?لمفسدين في ?لأرض أم نجعل ?لمتقين ك?لفجار).. وقوله: (أم حسب ?لذين ?جترحوا ?لسيئات أن نجعلهم ك?لذين آمنوا وعملوا ?لصالحات سوآءً محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون).. وينص على أن أعدل الحكام في حكمه لم يسو بين المحسن والمسيء.. حقاً ـ يا أمي ـ في زمن الاستبداد من ناحية والضعف من ناحية، ليس للصامت والمتكلم، إلا أن ينتظرا كيف حكم وسيحكم الله بين المتاجرين بالحق والمتاجرين بالباطل..
خاتمة: قال صلى الله عليه وسلم: من قرأ منكم (والتين والزيتون) فانتهى إلى قوله: (أليس الله بأحكم الحاكمين) فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.