'الشقّ' السياحي أكبر من 'الرقعة'. فالسياحة ليست رافداً من روافد دعم الاقتصاد تتناقص أهميته مع نجاحنا في دعم روافد أخرى، بل أصبحت تشكّل تهديداً مباشراً لاقتصادنا مع استمرار الخلل الكبير في ميزان التبادل السياحي بيننا وبين دول العالم

المسارب الثلاثة التي تتسرب منها الثروة السعودية خارج الاقتصاد السعودي - وتم تناولها في المقالة السابقة - ليست خارج نطاق الرصد تماماً. ثمة جهود ملحوظة لاحتواء هذه الثقوب الواسعة في الإصلاحات الاقتصادية خلال السنوات الأخيرة ولكنها - كما يتضح للجميع - ما زالت دون المأمول بدليل استمرار المشكلة. الأموال السياحية التي تفرّ من قبضة الاقتصاد الوطني تماماً مثلما يفرّ السائح السعودي من وطأة الطقس الحار والخدمات الرديئة لا يستعاد منها سوى جزء يسير رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها الهيئة العليا للسياحة منذ تأسيسها. وإذا تحرّينا الدقة فإن هذه الجهود لم تستعد الأموال المتدفقة إلى الخارج بقدر ما أسهمت جزئياً في تنشيط سوق سياحة داخلية بين أولئك الذين لم يعتادوا السفر إلى الخارج من جهة وبين المنتج السياحي الداخلي غير الموجه لاستهلاك السائح الخارجي من جهة أخرى. فبعض المرافق السياحية الحديثة التي أشرفت الهيئة على تجهيزها في مختلف مناطق المملكة لم تدفع سائحاً سعودياً إلى استبدال دبي ولندن وبيروت بها، ولكنها دفعت شريحة أخرى من المواطنين إلى الخروج من بيوتهم من حين لآخر للاطلاع على تلك الحديقة الجديدة أو ذلك الشاطئ الحديث. وإذا استثنينا السياحة الدينية المرتبطة بالحج والعمرة (أو لم نستثنها!) فإن نسبة الناتج القومي المتحققة من السياحة الداخلية مقارنة بالناتج القومي المهدر من السياحة الخارجية لا تكاد تذكر. السوق السياحي الداخلي الذي صنعته الهيئة العليا للسياحة بمشاريعها الأخيرة هي نتيجة جهد إيجابي بطبيعة الحال غير أنه لا يتصدى بشكل مباشر للمشكلة الأساس: وهي تسرب الأموال السياحية بهذا التدفق الهائل طيلة السنة خارج حدود الاقتصاد دون استعاضة - ولو جزء يسير منها - باجتذاب سائح أجنبي إلى السعودية. استحداث سوق سياحي جديد لشريحة من غير السائحين المعتادين شأن يختلف عن استعادة السوق الأضخم الذي ليس لنا فيه ناقة ولا جمل. وحتى لو تحققت كل النجاحات المأمولة من هذا السوق المستحدث فإنها تظل بعيدة عن تعويض اقتصادنا الوطني عن تلك الأموال المتسربة خارجه والتي لا يمكن تعويضها سوى بتوفير منتج سياحي داخلي منافس للوجهات السياحية الشهيرة (ويالها من مهمة صعبة) أو بجذب سائح أجنبي ذي قدرة استهلاكية مساوية لإنفاق السائح السعودي في الخارج (ويالها من مهمة أصعب!).
لطالما كان الاهتمام بالتنشيط السياحي سابقاً من الكماليات الاقتصادية في الزمن الذي كان فيه الاقتصاد السعودي أقل تعقيداً والسوق العالمي أقل تنافسية. وأيضاً في الزمن الذي كانت فيه مشكلة تسرب الأموال السياحية السعودية خارجاً مشكلة موسمية مرهونة بفصل الصيف ومرتبطة بشريحة اجتماعية معيّنة. أما اليوم فالسياحة الخارجية صارت صنبوراً مفتوحاً طوال السنة. فسياحة نهاية الأسبوع، والإجازات القصيرة، وسياحة الأعمال، هي سلوكيات جديدة على السائح السعودي. وقد برعت وجهات سياحية عدة في المنطقة في انتهازها لتتلقف على مدار السنة سائحاً سخيّاً ومغرياً مثله، يستهلك أثناء سياحته كل شيء تقريباً، ويسكن ويأكل ويتنقل ويتسوق في النطاق الأرقى ضمن ما تقدمه أي وجهة سياحية من فنادق ومطاعم ومواصلات وبضائع، ويحلّ على المدن في عوائل كبيرة أحياناً حتى تكاد كل عائلة تكوّن فوجاً سياحياً بحد ذاتها، والأهم من ذلك كله أنه سائح وفيّ.. يتردد في أغلب الأحيان على نفس الوجهات ولسنوات طويلة. وحتى متوسطو الدخل منهم لا تكاد تنقضي سنة من عمره دون أن ينهب الطرق البرية باتجاه دولة خليجية شقيقة. إنه - بكل معايير التسويق - سائح تحلم به أي وجهة سياحية في العالم. ولعل هذه المعلومة تعدّ من بدهيات المهنة لدى وزارة السياحة اللبنانية وغرفة دبي وإدارة السياحة البريطانية ووزارة السياحة الماليزية على حد سواء. حتى الشركات الوطنية الكبرى أصبحت تسهم في دعم سياحة الأعمال الخارجية عن طريق إرسال موظفيها لدورات قصيرة وبشكل منتظم في دول أخرى رغم وجود - أو إمكانية إيجاد - دورات مكافئة لها داخل المملكة. ولكن الشركات تصرف النظر عن شؤون توفير النفقات وهموم السياحة الداخلية وتقدم هذه الدورات لموظفيها كمكافآت غير مباشرة من بند التدريب المقبول عادةً عند مجالس الإدارة بدلاً من بند المكافآت المكروه.
إن (الشقّ) السياحي إذن أكبر من (الرقعة) التي نحاول صناعتها الآن. فالسياحة ليست رافداً من روافد دعم الاقتصاد تتناقص أهميته مع نجاحنا في دعم روافد أخرى، بل أصبحت تشكّل تهديداً مباشراً لاقتصادنا الوطني مع استمرار هذا الخلل الكبير في ميزان التبادل (السياحي) بيننا وبين دول العالم. وإذا سلّمنا أن المال لا يشتري طقساً جميلاً ولا مروجاً خضراء (رغم أنها موجودة في بلادنا ولا نحتاج إلى شرائها!)، فإننا نسلّم أيضاً أن الأموال السياحية التي تدفّقت إلى دبي من السعودية في السنوات العشر الأخيرة تكفي لنسخ نصف مرافقها السياحية الشهيرة على أرضنا، وحتى لو لم يقتنع بها السائح السعودي حباً في التغيير وتجاوز الحدود، فلعل السائح الخليجي يقتنع، ويحلّ على أرضنا فنكرمه ونرضيه، ويتدفق المال السياحي باتجاهين بدلاً من اتجاه واحد. قد يبدو ذلك مشروعاً حالماً وغير ممكن، ولكن صورة تاريخية لوسط سنغافورة قبل ثلاثين سنة ترينا أن كل المشاريع السياحية الكبرى.. بدأت بحلم!