بعد كدح طويل يتوصل المرء إلى أداء وظيفة عظيمة من التعود على القراءة السريعة، ويروى عن الشافعي ولفرط نمو هذه الملكة عنده من تضخم الوظيفة الدماغية في مستوى الرؤية العينية أنه كان يغطي الصفحة اليمنى من الكتاب أو اليسرى، وهو يفتح الكتاب حتى يتمكن من قراءة صفحة واحدة في وقت واحد، فلا تطير عينه إلى الصفحة الثانية.
ويمكن أن نعرف قوة هذه الملاحظة في تفقد أسماء وأحرف وعناوين في جرد سريع للكلمات والأحرف.
والمهم في القراءة السريعة ليس عدم الاستيعاب بل الاستيعاب مع السرعة، فإن استطاع المرء جمع هاتين الفضيلتين يكون قد فاز فوزاً عظيما.
وهنا يوجد قانون هام فكما كان في مضغ الطعام على أفضل صورة أن يكون بأربعين مضغة، فهناك رقم أيضاً في النطق الأمثل والقراءة الأحسن، وأظن أن عدد الكلمات نطقا ثلاثة آلاف في الدقيقة، وربما كان في القراءة خمسة آلاف كلمة وأكثر، وعدد الصفحات التي تقرأ في الساعة يجب أن تحسب وفق هذا المنسوب، كما كان في المشي اليومي مثلاً خمسة إلى عشرة كيلومترات فربما كانت قراءة الساعة الواحدة من ثلاثين إلى خمسين صفحة، والمركزة ربما كانت في عشر صفحات للساعة، كما حدث معي في قراءة كتاب (الكون) عن مدرسة الإسكندرية وأشهر علمائها في كتاب كارل ساجان.
والبارحة وأنا أتفقد كتاب وداعا أيها السلاح لارنست همنجواي وهي عادتي في مراجعة قراءاتي السابقة دوماً لاحظت ما كتبت على الصفحة الأولى وهي عادتي مع ختم كل كتاب أن أكتب ملاحظتي حوله، ومما لفت نظري أنني قرأت القصة في ليلة واحدة أثناء تخصصي الطبي في ألمانيا فكنت أسهر مع الكتب والمرضى والسكارى المضروبين والمكسرين بالحوادث، وكثير من الكتب قرأتها في ليال قليلة.
وأذكر إحدى مواد كلية الشريعة وأنا أتقدم لها في فصل الخريف، حيث كنت أقدم مواد الطب في دورة الصيف ومواد كلية الشريعة في فصل الخريف، حيث إنني قرأت تلك المادة في ليلة واحدة، ونجحت فيها، وطبعا لم آخذ فيها سوى علامة النجاح في حدود الخمسين، وهو أمر ممتاز، أن لا تعلق في المادة، خلاف مادة الغريزة (الفسيولوجيا) في الطب مع شفيق البابا باختبار شفهي وهو أصعب من التحريري، ومادة النحو والصرف المزعجة مع البيطار في كلية الشريعة، فقد حملتها قبل أن أجتازها وأنا أحمد الله على النجاة.
والمهم في حديثنا الحالي كيفية تدريب القارئ على القراءة السريعة الهاضمة والانتباه إلى النقط الهامة من البحث، وأولها أن القارئ يجب أن يكون قد تمرن على قراءة مئات إن لم تكن الآلاف من الأبحاث والكتب، وفي البداية يتعذب الإنسان ويصبر ويجاهد قبل أن تلين له الأشياء.
والمتدرب على هذا النوع من القراءات ينتبه منذ الأسطر الأولى إلى أن البحث خفيف يمكن القفز فيه بسهولة، أو أنه دسم ثقيل على المعدة يحتاج ساعات طويلة للهضم!
نعم أن الفكر هو مثل الطعام بفارق الأول للمعدة والثاني للدماغ، وكما احتاج الجسم إلى البروتينات والدسم كذلك تروية الدماغ بالأفكار، والروح بالطاقة، والطائرة بالبنزين، والنفس بالمثل الأعلى، والجسم بالصحة، والعضلات بالتمرين، والصحبة بالعشرة الطيبة، وطول العمر بثلاث: الرياضة والقراءة والجنس، فكلها جدل للحياة يجب الأخذ به. والله يعلم وأنتم لا تعلمون.