هل قتلت لأنها امرأة ولم تتصرف كما كان يراد لها ويتوقع منها كامرأة في ذلك العصر؟ أم لأنها كانت عالمة؟ أم ربما لأنها كانت فيلسوفة؟ ربما لأنها كانت متواضعة ومحترمة ويؤخذ برأيها؟
لمن يتوقع أنني سأتحدث عن قيادة المرأة للسيارة أو سفرها بمفردها أو شكل عباءتها، أو زواجها من مواطن عربي أو أجنبي، لمن يتوقع أنني سأتحدث عن التسجيل في الجامعات وعدد الكراسي، لمن يتوقع أنني سأتحدث عن سعر الحليب أو الثوم أو حتى البصل، لا تواصل، فحديثي اليوم لا يمت لأي من هذه المواضيع بأية صلة، ليس لأنني أقلل من شأن كل هذه المواضيع، ولكن لأنني أفضل أن أدخل في موضوع فكري ثقافي تاريخي بحت مع نوعية معينة من القراء هم في عطش دائم للمعرفة والتحليل، لمعرفة ما دخل ما كان فيما هو كائن، وحديثي اليوم عن حادثة في التاريخ القديم لها الكثير من الدلالات خاصة لزمن نعيشه ونعاني من نوعيات في التفكير والسلوكيات لا تعتمد على المعرفة والمنطق، بل الأخطر من ذلك أنهم ينجرون خلف من يجيشهم ليقطعوا بكل همجية أوصال بشر مثلهم إن لم يكن بالأسلحة البيضاء وغيرها فبالكلمات!
في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع الميلادي عاشت هيباثيا ابنة ثيون الباحث وأستاذ الرياضيات في جامعة المعبد التي كانت تابعة لمكتبة الإسكندرية في ذلك الوقت، حيث كان الباحث الكاهن حين يقدم مخطوطة يناقشها أمام مجلس قبل أن تجاز وتضم للمكتبة، فنشأت ابنته على المعرفة، وغرس فيها شغفه بالبحث عن إجابات عن المجهول، فكبرت لتلمع في علوم عدة منها الرياضيات وعلم الفلك والفلسفة، حتى وصلت إلى مرتبة عميدة المدرسة الأفلاطونية حيث كان من طلابها إلى جانب الوثنيين عدد من المسيحيين والأجانب، ولقد كانت محل تقدير وإعجاب الجميع، ليس فقط لعلمها ولكن لتواضعها وجمالها وحبها لنشر العلم، فلقد كانت ترتدي ثوب الفلاسفة المعروف في ذلك الوقت، رافضة التزين كبيقة النساء، والتجول في الأسواق والساحات لتحاضر عن الفلسفة لمن يرغب في الاستماع، كما كانت محل إعجاب وتقدير النبلاء وخاصة الحاكم الروماني الذي يقال إنه كان أحد تلاميذها، ويقال إن لها أعمالا منفردة وأعمالا مشتركة مع والدها، ولكن لم يبق شيء لعصرنا هذا سوى ما جاء في مراسلاتها مع دامكيوس أسقف بتلومياس الذي كان أحد طلابها، والسؤال هنا لماذا لم يبق لنا من أعمالها سوى ذكرها؟ لأنها كانت تشكل خطرا بعلمها ومكانتها واحترامها وبعدد من كانوا يرتادون مدرستها لتلقي العلم، والعلم يعني التفكير، والتفكير يعني التساؤل والبحث، وهذا ما كان مرفوضا بالنسبة للكنيسة الحديثة آنذاك في الإسكندرية، فالمطلوب كان الإيمان والتسليم دون مساءلة أو تفكير، ومن يفعل غير ذلك يكون مصيره تهمة السحر والشعوذة ويحرق، طبعا ليس عن طريق الرؤوس بل عن طريق الأذيال المجاميع المنقادة والواقعة تحت تأثير الخطب الرنانة والمجيشة ضد الهدف، فتخرج هذه المجاميع الغاضبة في البحث عن الكفرة، وتحطيم مدارسهم وكل أدواتهم، وحرق كتبهم، ومن ثم جر أصحابها للساحات للتمزيق والحرق، وهذا ما جرى بالضبط مع هيباتيا، فقد شعر الأسقف كيرلس بخطورة هيباتيا على جماعة المسيحيين في المدينة، ليس من غيرة أو خوف على الدين، بل كان خوفا على مركزه ومكانته بين المسيحيين وعامة الشعب في الإسكندرية، إذ كانت منطقة خاضعة للإمبراطورية الرومانية آنذاك، هذا بالإضافة لصداقتها مع الوالي أوريستوس، تلميذها والمدافع الأول عنها، الذي كان بينه وبين كيرلس صراع سياسي في النفوذ والسيطرة على المدينة، فأضمر الأخير العداء لهما ونجح في ذلك حين استخدم جماعة من الغوغاء يحتمون تحت غطاء الرهبنة، التي تتبعتها وأمسكت بها بالقرب من بيتها، وحسب قول المؤرخة كاثلين وايلدر وغيرها: قاموا بجرها من شعرها، ثم قاموا بنزع ملابسها وسحبها عارية تماما بحبل ملفوف على يدها في شوارع الإسكندرية حتى تسلخ جلدها، ثم إمعانا في تعذيبها، قاموا بسلخ الباقي من جلدها بالأصداف إلى أن صارت جثة هامدة، ثم ألقوها فوق كومة من الأخشاب وأشعلوا فيها النيران، وبهذه الجريمة النكراء حدد علماء التاريخ نهاية عصر الهيلينية، وأحرقت ودمرت المكتبة في الإسكندرية وكل توابعها، والمحير حقا أننا حين نبحث في الكثير من المواقع تجدهم يصرون على أن الإسلام هو السبب، وأن الهجمات الإسلامية على مراكز العلم وتدميرها منها مكتبة الإسكندرية، كانت السبب في اختفاء كل هذه العلوم!
والآن هل قتلت لأنها امرأة ولم تتصرف كما كان يراد لها ويتوقع منها كامرأة في ذلك العصر، أم لأنها كانت عالمة، أم ربما لأنها كانت فيلسوفة، ربما لأنها كانت متواضعة ومحترمة ويؤخذ برأيها، وربما لأنها حفظت وصية والدها حيث قال احتفظي بحقك في التفكير، أن تفكري وتخطئي أفضل من ألا تفكري أبدا، وأن تعلمي الخرافات على أنها حقائق لهو من أخطر الأمور. قد يكون لأحد هذه الأسباب أو لجميع هذه الأسباب، ولكن الأهم هو أنه كان ينظر إليها على أنها كانت عقبة في مسيرة أحدهم نحو السلطة، وعليه تمت تصفيتها، لا لنوع أو لدين ولا لفكر أو مكانة! وعليه لنأخذ قسطا من الراحة ونفسا طويلا، ولنحلل بعمق هذا الحدث وكل ما شكله من تاريخ الإسكندرية القديم، ومن ثم... لننظر من حولنا في العالم، ولا أعني هنا بقعة معينة أو منطقة معينة، ولنصغ لما يريد أن يخبرنا ذلك الحدث عن هذا الوقت، ولنتنبه... لعل وعسى أن نتنبه!