لجمال هذا المخيم فإنه لا يستعدي أحداً، ولا يزعم الصوابية المطلقة في كبار مثقفيه، ولا يُحرض العامة على الآخر المختلف أياً كان
وفيما كان النائم يوشك على الاستيقاظ؛ رأى اللوحات الدعائية للمخيم الثقافي تحتل الشوارع، والميادين العامة، وأعمدة الكهرباء، لم يبق شبر في المدينة إلا وأعلن ولاءه لهذا العصر المتخم بالثقافة. حتى جرار الفول ما كانت لتغيب عن الحدث المنتظر في كل صيف، فتزينت ببوسترات دعائية فاخرة، وخرائط ترشد الناس إلى المكان المميز، وتشرح لمن لا يعرف بركة الحضور، ولذة الاستماع.. الكل هنا يبصم بأصابعه العشر أن هذا عصر عودة المثقفين وأوانهم، وأنه لا خوف عليهم أبداً، ولا على قوتهم مهما تغير الزمن وتبدلت ميول المتلقين واهتماماتهم، وما سوى ذلك هو مجرد وهم، وأحلام يقظة لمجموعات متهالكة من المنظرين الذين لا يعرفون شيئاً عن الواقع، ولا يتماسون مع مواهب المشتغلين في المخيم، كي يعرفوا من أين تؤكل الكتف وتتشابك المصالح؟ فالمنظرون دائماً بلا أكتاف، ولا سواعد، ولا بركات تقربهم إلى الناس زلفاً! وحتى لو كان بعض سكان المخيم يمثلون دائماً دور الضحية المبعدة والمحاصرة؛ إلا أنهم سرعان ما يعودون في كل مرة أقوى من ذي قبل، وما تشاهده العين لا يمكن تكذيبه! أما التمثيل فهو مجرد ذر للرماد في العيون؛ تجنباً للحسد، أو ربما خوفاً من انتشار تفاصيل المخيم الأسطوري بكل ما فيه من أفكار ومواقف مع أو ضد، وحتى هذه الأخيرة لا عواقب خطيرة لها، إذ يجوز للمثقفين ما لا يجوز لغيرهم بالطبع، وهذا المخيم الجميل هو المكان المميز الذي يُجبى إليه كل ما تشتهيه الأنفس في المدينة، من خدمات، وأموال، وتزكيات تنوء بحملها الجبال، ولجماله فإنه لا يستعدي أحداً، ولا يزعم الصوابية المطلقة في كبار مثقفيه، ولا يُحرض العامة على الآخر المختلف أياً كان، وهو يعوذ بالله من ذلك! وما على المثقفين المخدومين ـ المدللين ـ في كل صيف إلا أن يتقاطروا إلى مكانهم الجاهز، والمهيأ، والمحجوز سلفاً لأهل الثقافة الحقيقية في البلد، المتسلحين بالنشاط والعزيمة، ووسائل الانضباط والتنظيم، والقدرة على قراءة كف المستقبل والتحولات.. أما المتحفظون والمناوئون والكسالى الذين يستكثرون على المثقفين ممارسة طقوس الثقافة؛ فبكل صراحة لن يستطيعوا تشغيل ربع هذا المخيم الأسطوري، ولا حتى التعامل مع بضعة عشر مريداً، فما بالكم بجمع ثمن عشاء فاخر؟! ورحم الله من عرف قدر نفسه، ذلك لأن المتحفظين يعتمدون في جل طروحاتهم على التنظير، والنقد المتعالي، والجيوب المنهكة بمصاريف الأولاد، دون النزول إلى الشارع، ومخاطبة كل الشرائح، وهو عكس ما يفعله المثقفون في المخيم الذين يستثمرون ربع فرصة، ويجتمعون باتصال هاتفي، ولعل أكثر ما يعول عليه المخيم في استمراريته جماهيرياً هو مقولة: نحن أكثرية وأنتم أقلية، وهذا حق يجب على الأقلية ـ المتحفظة ـ أن تقبله بالحسنى أو بالمشعاب! ففي زمن ثقافة الأكثرية هذا يجب أن يرقى الناس إلى مستوى الحدث دون اعتراض أو تململ، أو إحساس عميق باللاجدوى.. ثلاثة عشر عاماً متصلة، ولا شغل للناس إلا المثقفون ومعارضهم، أجيال من المريدين تأتي وتذهب، ومثقفون كبار يتداولون تسيير الدفة، وحينما يتعبون أو يطردون لعارض من عوارض الدهر؛ يأتي من يحمل الراية ويبني المخيم على نفقته، أو من حساب الأصدقاء وما أكثرهم، ويحارب كل المعيقات ولو كانت خيالاً وطواحين هواء؛ أفلا يستحق مثقفون بهذه الاستعدادات الجيدة أن يفتح لهم المجال على الآخر؟ أليسوا هم القدوة في التنظيم والانضباط وحشد المؤيدين والمريدين؟ إن وافقتم على ذلك فكل تحفظ على ما يقدمه المخيم الثقافي؛ هو مجرد تنفيس، وربما في أحسن الحالات تسجيل موقف، ولقد قال لي أحد الأصدقاء العارفين: بأن من يقول كلمة أف ولو خفيفة لأهل المخيم هذه الأيام؛ فهو كمن يقف أمام (تريلا) محملة بالأسمنت على خط سريع! ولذلك فأنا لا أقول لا، ولا أحتج ؛ بل أبارك وأشيد، وأرجو الله في عليائه أن يحفظ النسل والبلاد، حتى يعود المثقفون إلى منازلهم سالمين، ويطوى مخيم الصيف إلى العام القادم.