أسئلة كثيرة وصغيرة لا تحمل مفيدا في نظر البعض لكن الشباب اليوم مشغولون بها انسجاما مع 'ثورة التواصل' التي تجتاح العالم، وشبابنا جزء منه
أمضيت – قبل أيام – عشرين ساعة في حوار متصل مع مجموعة من شباب الوطن الذين أدركوا أهمية العمل التطوعي وآثاره الإيجابية على الإنسان – متطوعا ومستفيداً ومجتمعاً- كان حوارا دافقا بالأمل مليئا بالتطلع إلى تحسين المهارات وتطوير المعارف وتصحيح الاتجاهات.. كان لقاء مفعماً بالحيوية والتفاؤل ونكران الذات والرغبة في خدمة المجتمع، مما يؤكد أن شبابنا بخير وأن تجاهلهم في القضايا الكبرى خطأ يرتكبه المجتمع في حق نفسه حين يهدر تلك الطاقات الدافقة ويهمل تلك العناصر المحركة لركوده والمحفزة لدورة نشاطه، فالشباب هم الأرض الخصبة لزرع الأفكار الإيجابية والتربة الفتية لغرس القيم الفاضلة فلا نهوض بدونهم ولا مستقبل دون سواعدهم ولا ابتكار في غياب عقولهم وطموحهم. والذين لا يعتدون بمساهمتهم ولا يضعون الاعتبار لقدرتهم على التغيير يفقدون ثروة هائلة ويخسرون رؤى صالحة لقيادة المجتمع إلى بر الأمان.
كانت الساعات العشرون، رغم صخب الشباب ومرحهم وحيويتهم وإقبالهم على الحياة ورفضهم للسكون والملل، لحظة تأمل اكتشفت فيها كم يضيع من أعمارنا دون أن نفعل شيئاً للآخرين، وكم نهدر من الأوقات دون أن نصحح خطواتنا ونزيل وهم العجز عن فعل شيء لمجتمعنا. تبدو الصورة للمتأمل، من خارج الدوامة، أنه ـ بعد السنوات المتوالية من العمل والركض في دروب الحياة والتدرج في سلم المهن حتى قمتها، ـ اكتسب من المهارات وحصل من المعارف وعدل من الاتجاهات، في مجاله، ما يمكنه من الاكتفاء والتوقف عن الاستزادة. والحقيقة أن هذا ورم فاسد يحرم صاحبه من متعة التجدد التي لا يعثر عليها إلا من خلال روح التلمذة حيث التحرر من الوهم والتخفف من العوائق والتلذذ بمعرفة الجديد..إن الكثيرين، رغم نجاحهم في مجالاتهم وبروزهم في مجتمعهم، يفتقدون من المهارات ما يزيدهم نجومية وحضورا ويضيف إلى تألقهم رصيدا بالغ الأهمية في تأثيرهم على الآخرين.. هي أشياء صغيرة لكنها مهمة، فهل فكر أحدكم يوما كيف يقف الوقفة الصحيحة التي تمنحه الطاقة المطلوبة لإنجاز ما يريد؟ هل تساءل أحدنا عن أهمية لغة الجسد في التواصل الإنساني والتعبير المؤثر عن الأفكار والقيم؟ هل انشغل أحدنا، يوما، بمهارات توزيع النظرات المحفزة على وجوه من يجلس أمامهم؟. أين يجب أن ينظر؟ وكيف ينظر؟ وأين يجب ألا ينظر؟. وما هي نبرات الصوت القادرة على تكثيف أفكاره ونقلها بصورة مؤثرة جاذبة للمتلقي؟ وهل كل الناس يرتاحون لطبقة الصوت التي تخاطبهم بها أم إن هناك تفاوتا بينهم؟ ولماذا يتفاوتون ويختلفون؟ كيف يمكن أن تكون وقورا ومرحا في الوقت نفسه؟!. هل البشاشة والمرح والتقاط الطرفة الذكية والتفاعل معها وتلمس مزاج الجمهور أمور ناقضة لمتطلبات العلم والمعرفة.. أسئلة كثيرة وصغيرة لا تحمل مفيدا في نظر البعض لكن الشباب اليوم مشغولون بها انسجاما مع ثورة التواصل التي تجتاح العالم، وشبابنا جزء منه.. أعرف أن هناك أجيالا ما تزال تدير الكثير من مرافق الحياة لم يكن لهم رواد ولم يحظوا بالإرشاد الصحيح ولم يجدوا التشجيع السليم والأخذ بأيديهم لإصلاح مسارهم، وهم سيرتكبون أخطاء جسيمة في حق أنفسهم إذا لم يعترفوا بأنهم خاضوا تجارب ناقصة ويعملوا لتدارك ما فات. الوقت، دائما، في صالح المبادر لتصحيح الأخطاء.
مجتمعنا يشكو من ضعف التعليم وهذا حق ومعالجته ضرورية، والإحساس والإلحاح على استمرار تحسينه علامة صحية، فكل المجتمعات المتقدمة لا تتوقف عن تطوير التعليم وملاحقة القائمين عليه ومتابعة جهودهم بالنقد والتقويم والتقييم،.. هذا ضرورة وحق، ولكن إلى جانب هذا الحق ضرورة أخرى لا تقل أهمية وتأثيراً على حياة الفرد ومكاسبه العلمية ومهاراته السلوكية وقدرته على إيصال قناعته وتعظيم تأثيره في محيطه. هذه الضرورة هي التدريب في كل مناشط الحياة وفي كل عمل يقوم به الإنسان السوي.. بالتدريب نزيد معرفتنا بما نريد فعله، وبالتدريب نرفع مهاراتنا ونحسن أداءنا حتى تصبح أخطاؤنا أقل مما كانت وترتفع إنتاجيتنا ونوصل معارفنا إلى غيرنا بصورة إيجابية.. وبالتدريب نصحح المفاهيم الخاطئة ونغير التوجهات السلبية. التدريب يؤدي ثلاث وظائف أساسية في حياة كل منا: فهو يعنى بتطوير معارفنا وتحسين مهاراتنا وتصحيح اتجاهاتنا مع قدرته على كسر الكثير من الحواجز الوهمية والعراقيل المصطنعة. بعضنا يعتقد أنه تحصل على ما يحتاجه من المعرفة والمهارة والتوجه السليم ويتوقف عن الاستزادة، لكن هذا وهم مضلل يحرم الإنسان من الخير الكثير.