تحقيق الديموقراطية يحتاج إلى سنوات طويلة، ربما تصل إلى عشر سنوات، أو أكثر. ولكن الثوار يظنون أن الديموقراطية قرار سياسي، وليست تربية، واستعداد مجتمع وشعب لتقبلها
-1-
ليست هناك فرحة لشعب من الشعوب المظلومة، والمسلوبة خيرات وطنها، والمحكومة بالحديد والنار عقوداً كثيرة، والشعوب التي لم يجد أبناؤها فرصاً للعمل، مثل فرحتهم لنجاح ثورة في بلادهم، حيث تأتي هذه الثورة مبشرةً بالسمن والعسل، وإقامة العدالة، وتوفير فرص العمل للشباب المنشور على الأرصفة والمقاهي، وإصلاح التعليم، وإقامة المجتمع المدني، وإتاحة هامش كبير للحريات العامة، واحترام قيم الديموقراطية، واستقلال القضاء، ومساواة المرأة بالرجل والرجل بالمرأة في الحقوق والواجبات.. إلخ. ولكن ما إن تمضي عدة أيام، وفي بعض الأحيان عدة أشهر، على قيام الثورة، وسقوط النظام القديم، حتى تُفاجأ الشعوب بأن الثورة لم تأتِ بغير الكساد، والتراجع الاقتصادي، والفوضى الأمنية، والانفلات في الإدارة, وأن الحكومة التي تتولى الحكم في الفترة الانتقالية، لا خبرة لها في إدارة شؤون البلاد والعباد، وأن الجميع يطالبون بزيادة رواتبهم، وأن الدولة تكاد تعجز عن دفع الرواتب السابقة. وأن الجميع يدعي بأنه هو من أشعل الثورة، ولا أحد يعتبر نفسه من الممتطين، أو الخاطفين للثورة. في حين أن الفرد لا دور له في أية ثورة وأن العقل الجمعي والعمل الجمعي، هو الذي يحرك أمور الوطن. وربما كانت الثورة عبارة عن تراكمات تاريخية وجغرافية وسياسية. وربما هي كبرميل البارود، أو برميل البنزين، الذي ينتظر من يقذفه بالشرارة الأولى لكي يشتعل. ولو كان هذا البرميل فارغاً من البارود أو من البنزين لما انفجر، ولو أُلقي فيه نار جهنم الحارقة. ولذا، اعتبر هيجل أن الفلسفة تأتي دوماً في الهزيع الأخير من الليل بعد اكتمال الحدث. ووجد هيجل مصاعب جمة في بلورة مسالك الخروج من الثورة، الذي هو في الواقع مفارقة عصية، بما هو خروج إرادي من حالة الحرية المطلقة المجردة إلى حالة الانتظام المؤسسي، الذي يقتضي إضفاء الشرعية على علاقات السلطة.
-2-
على مر التاريخ، واختلاف الزمان والمكان والمقدمات والنتائج، أصبح للثورات في التاريخ أوهام وأحلام. ومن هذه الأوهام والأحلام التي لم تتحقق في كثير من الأحيان لأسباب كثيرة:
1- تحقيق الديموقراطية التي كانت مفتقدة في عهود سبقت الثورة. وذلك في ظرف ستة أشهر أو سنة على الأكثر. في حين أن تحقيق الديموقراطية يحتاج إلى سنوات طويلة، ربما تصل إلى عشر سنوات، أو أكثر. ولكن الثوار يظنون أن الديموقراطية قرار سياسي، وليست تربية، واستعداد مجتمع وشعب لتقبلها. فالديموقراطية فيها مرارة الحداثة للحاكم والمحكوم. وهي ليست عسلاً، بقدر ما هي حنظل، لا بُدَّ من تعاطيه. وعلى قدر مرارة هذا الحنظل، يتم تحقيق بعض قيم الديموقراطية على أرض الواقع. يقول الفيلسوف الفرنسي المعاصر، وعالم الأنثروبولوجيا، والسوسيولوجيا والناقد الأدبي، روجيه كايوا في كتابه (الإنسان والمقدس sacré L’home et le) إن العرب كانوا يستعملون أكثر مكونات الترياق مرارة واشمئزازاً للنفس، كأدوية لأوجاعهم وأمراضهم، قبل أن يكتشف الطب والعلم الأدوية الحديثة. وكذلك فعل قبلهم الرومان. ويقول كايوا: وفي أيامنا، لا يزال هناك اعتقاد سائد - بنسب تتفاوت وعياً- بأن الدواء الأنجع هو الأكره مذاقاً. وأن أكثر من دواء كريه، تجد الأمم نفسها في بعض الأحيان، مضطرة إلى التماس الخلاص المنشود فيه. ومن هنا، كان دواء الديموقراطية للدكتاتورية من الناحية السياسية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، هو الدواء الأكره مذاقاً. ولعل الحالة التونسية والحالة المصرية، وما ستؤول إليه الحالة في ليبيا، وسورية، واليمن، خير دليل على الثمن الغالي والباهظ، الذي سيدفعه الشعب لتحقيق الديموقراطية على مرِّ السنوات القادمة. وهو الدواء الأنجع، ولكنه الدواء الأكره مذاقاً.
2- ومن أوهام وأحلام الثورات القضاء على الفقر. فمن المعروف أن الثورات يشعلها الفقراء. الأغنياء لا يثورون، لأنه لا دوافع لديهم للثورة. فلا شكوى للبطون المتخمة شبعاً. البطون الخاوية والجائعة هي التي تثور طلباً للخبز. والقضاء على الفقر لا حل سياسياً له. وإنما حله يكمن في رجال الاقتصاد، وفي النخب الاقتصادية. والفقر يُشكِّل عائقاً لتفوق معدلات النمو الاقتصادي على معدلات النمو الديموجرافي. وأنه لا ديموقراطية للجياع، حيث إن معظم سكان البلدان العربية الكبرى، يعيشون تحت خط الفقر. والفقراء تعاملوا حتى الآن مع الانتخابات الديموقراطية إما بالاستنكاف عن التصويت (مصر)، وإما ببيع أصواتهم (المغرب، والهند، ولبنان)، وإما بالتصويت الاحتجاجي لأكثر الحركات تعصباً وعنفاً (الجزائر). إن الديموقراطية لا تتأصل إلا في مجتمعات الوفرة، إلى درجة أن رئيس البنك الدولي السابق يقدر، أن بلوغ متوسط الدخل الفردي السنوي عشرة آلاف دولار، هو الشرط المناسب لتوطين الديموقراطية. عندئذ، تتضاءل إمكانية التصويت الاحتجاجي، والعنف السياسي، ويختفي بيع الأصوات. والفقراء هم عادة ضحايا الأميّة والجهل. وهذا لا يساعدهم على وعي أهمية الديموقراطية كعامل استقرار سياسي، يساعد على التنمية الاقتصادية باستقطاب الاستثمارات الخارجية، وبإقناع الرساميل الداخلية بعدم الفرار. ولا يساعدهم فضلاً عن ذلك على وعي أهمية حقوقهم المدنية. وهم الذين لم يترك مطلب توفير لقمة العيش في رؤوسهم مكانا لأي مطلب سواه. كما يقول المفكر التونسي العفيف الأخضر في مقاله عوائق توطين الديموقراطية في المجتمعات العربية.
3- ومن أوهام وأحلام الثورات القضاء على البطالة، أو تخفيف نسبتها العالية في العالم العربي. (بلغت نسبتها 20- 30 %) وانتشار البطالة بهذه النسبة العالية في العالم العربي، ووجود هذه الملايين من العاطلين عن العمل، الذين يحملون شهادات مدرسية وجامعية، لا قيمة لها في سوق العمل المحلي والإقليمي والدولي، دليل واضح على تخلُّف التعليم، وانتشار الفساد السياسي والمالي في العالم العربي، وبالتالي تخلُّف هذا العالم. وهذا الواقع قائم، رغم ازدياد عدد الجامعات في العالم العربي (10 جامعات في 1950 إلى 175 جامعة في 1995)، ورغم زيادة الإنفاق عليها ( وصل في 1996 إلى 9. 6 مليارات دولار)، ورغم زيادة حاملي الشهادات العالية (وصل عددهم في 1990 إلى 500. 80) من حملة شهادة الدكتوراه، الذين يعانون هم أنفسهم أيضاً من البطالة، حيث تظاهر في الأردن أخيراً أكثر من خمسين شخصاً من حملة شهادة الدكتوراه في مختلف التخصصات، أمام مبنى مجلس الوزراء مطالبين بإيجاد عمل لهم. كما أن البلدان العربية تعاني فائضاً في الموظفين، في وظائف متدنية الكفاءة ومنخفضة القيمة في قطاع الخدمات. والبطالة في العالم العربي آخذة في الازدياد. فماذا يمكن للثورات والثوار، أن يفعلوا في مثل هذا الواقع الصعب والبالغ التعقيد في ظل الضعف الاقتصادي في بعض الدول العربية، مما يشير إلى استغراق الثورات لزمن طويل لحين البدء بحل مشكلة البطالة في البلاد الثائرة.
وبعد، فإن الثورات ليست – كما يُظن - هي الريموت كنترول، الذي سوف يفتح كل القنوات الفضائية السياسية والاقتصادية والتعليمية وغيرها.