في كتابه (الإنسان المهدور ـ دراسة تحليلية نفسية اجتماعية) يقدم الدكتور مصطفى حجازي دراسةَ استكمال وتوسيع وتطوير لكتابه ذائع الصيت (التخلف الاجتماعي ـ مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور) الذي درس فيه الخصائص النفسية للتخلف، ووقف عند العقلية المتخلفة؛ بما ينتج عنهما الإنسان المقهور لعالم الضرورة ولعالم القهر التسلطي، حيث تنحسر قدرة السيطرة على الحياة؛ وسائل وغايات ومصيرا. ويظلّ القهر، مهما تكن وسائله، واقفا عند الحدود الخارجية، يستطيع معها الإنسان أن يمارس رفضه وتمرده وثورته. ثمّة نواة ما تزال سليمة وقادرة على الحماية، فيها يقرأ الإنسان حريّته وكيانه.
في داخل الإنسان المهدور تتفجّر هذه النواة الحامية والحافظة. ثمّة عراء لكينونة الإنسان. القيمة غير موجودة. الكرامة مستلبة. الاعتراف بـ الإنسان مسحوب تماما. الإلغاء هو السائد، حيث لا يعود الإنسان إنسانا، بل هيكلاً خاويا من شحنته الوجودية.. ويصبح برهن الاستباحة والمصادرة وبرسم التصرف، دون حدٍّ ولا رادع. ومفردة الهدر تكفي أن تكون معبِّرا وحاملاً لذلك المعنى من حيث اللغة ومن حيث ما يريده المصطلح المستخدم في الدراسة، حين يكون الهدر هو إبطال الدم، ورفع الحصانة، وسقوط المكانة، وانعدام الوزن حيث لا قيمة ولا ثمن ولا اعتبار. بهذا المعنى فإن مجال الهدر مفتوح ما بين إنكار إنسانية الإنسان وعدم قبوله والاعتراف به، وبين إقصائه واستبعاده ونبذه وعدم الاستعانة بما يتوفر عليه من طاقات فكريّة وحيوية.
يتتبّع الدكتور حجازي الأدوات التي تصنع مفهوم الهدر، وتضعه في مدار الفعل الضاغط المفتت لكينونة الإنسان، ومعنى وجوده الذاهب إلى العطالة والامّحاء. وتتحدّد هذه الأدوات فيما يسميه بـمثلث الحصار أو ثالوث الحصار. قاعدته الأساسية الاستبداد من خلال حكم المخابرات والبوليس السياسي، وضلعاه المكملان هما العصبيات والأصوليات، حيث تعمل العصبيات وفق ثنائية الولاء والطاعة مقابل الحماية والنصيب من الغنيمة، وتعمل الأصوليات في تضخيم نطاق التحريم وتحويله إلى نظام يخفض من حاجات الإنسان وتطلعاته ورغباته إلى مستوى يكتفي فيه بـإشباع الحاجات الحيوية والنباتية.
في هذا المثلث تكمن المعضلة، والتي ينبغي مقاربتها على أكثر من صعيد وفي أكثر من طيف. ذلك أن الهدر يندرج إلى ألوان متعددة، وإلى مستويات متفاوتة، في محصّلة أساسية يتحوّل معها الهدر إلى مرض كياني؛ يمتد من الفرد إلى المجتمع، حيث يقع الجميع في فقدان المناعة الكياني، حيث يدخل المجتمع عندها بناسه وطاقاته الحية في وضعيّة التاريخ الآسن، الذي ينخرط في الاجترار والتكرار بدلا من دينامية التغيير والنماء.