'الحرية' قيمة إنسانية فطرية، تختلف كل أمة من الأمم في ضبطها ووضع الحدود التي تحد من حرية الأفراد لصالح الجماعات، بينما 'الليبرالية' مذهب فكري يقوم في أساسه على المعنى اللغوي، إلا أنه يتجاوزه ليعبر عن فكرة 'التحررية'

إن أشد شيء تعاني منه الليبرالية في العالم العربي هي محاولة استزراعها في مكان غير صالح، ولا ينفع في هذا تفتيت المصطلح إلى مجالات ثم تركيبه في مكان آخر، مع نزع المجال الموضوعي للمصطلح وترحله التاريخي وظروفه التي نشأ فيها، فالليبرالية في الغرب نشأت عبر سياق طويل من التحولات السياسية والعقدية والاقتصادية، وجاءت نتيجة تراكم معرفي وحضاري، وكان نشوء الليبرالية في الغرب له ما يبرره حين عانت المجتمعات من التسلط الكهنوتي، والاستبداد السياسي الذي ضرب أطنابه في الأرض، فكانت الفكرة الوضعية هي الملجأ والبديل الذي يحل محل الفكرة المرفوضة التي أشقت الناس، وخاصة حين يتحول الدين إلى عامل إعاقة وظلم وقهر وإفساد في البر والبحر، وهذا ما حصل في الغرب تاريخياً مما أدى في نهاية المطاف إلى تحييد الدين عن الفاعلية في الحياة، واللجوء إلى العقل الوضعي ورفض ما سواه.
لقد استطاع الغرب عبر العقل الوضعي أن ينعتق من الظلم والاستبداد، ويدشن عصر النهضة والحضارة من جانبها المادي، وتسنم القياد الحضاري بسبب المنهج التجريبي والإبداع العلمي والتقني، في الوقت الذي صادف هذا نكوصاً حضارياً في العالم الإسلامي والعربي، وبمجرد أن ظهرت الحضارة الغربية بمنتجاتها الفكرية والمادية حتى أصبحت صدمة للعالم الإسلامي أسهمت في بث سؤال النهضة لماذا تقدم الغرب وتخلفنا؟، وهذا سؤال يحمل في طياته أبعاداً نفسية، وإشكاليات أدت إلى إعادة قراءة الذات والتاريخ، ومحاولة صياغة العلاقة بين الشرق والغرب من خلال مفاهيم جديدة لم تكن موجودة في الماضي، فكانت فكرة الليبرالية الغربية بمنتجاتها المتنوعة من أشهر الأفكار التي لاقت زخماً كبيراً في الفضاء الثقافي التداولي، وقد تشرّب الفكرة الليبرالية فئام كثيرة من أبناء العرب والمسلمين، حملوها بعنف وغلوا حتى صارت هي البشارة التي يبشرون الناس بها، ويتحمسون لها أكثر من حماسة أهل الأديان لأديانهم.
إن اللافت في طرح فكرة الليبرالية أنها كلمة مع كثرة تداولها الثقافي إلا أنها قابلة لتوسيع الدلالة والتأويل، فكل إنسان يعبر عنها من خلال موقعه الخاص، أو طموحه الذاتي، أو يعبر عنها بنقص يشعر به في الواقع، حتى باتت كلمة لا معنى لها في هذا الفضاء التداولي، ففي حين يرى بعض الليبراليين الذين لا يزالون يتمسكون بالهوية الدينية والوطنية أنها لا تتعارض مع قيم الإسلام، بل هي تعبر عن هذه القيم بصورة أو بأخرى، يرى بعض الدعاة والإسلاميين بأنها كفر محض، وأنها أخطر فكرة تقوض الإسلام وتقضي على شعائره، مع وجود من يحمل الفكرة الليبرالية مع موقف سلبي من التعاليم الدينية وخاصة حين يعبرون عن آرائهم في العالم الافتراضي في الإنترنت ،التي من خلالها يظهرون ما لا يستطيعون إظهاره في العلانية، ومن خلال المتابعة والدخول في السجال المباشر مع مجموعة من الليبراليين عبر سنوات في النت أدركت أن هناك خلطاً بين مفهوم الحرية، وبين الليبرالية، فالحرية قيمة إنسانية فطرية، تختلف كل أمة من الأمم في ضبطها ووضع الحدود التي تحد من حرية الأفراد لصالح الجماعات، وسن القوانين التي تضبط العلاقات بين الناس، سواء كانت هذه الضوابط شرعية دينية، أو كانت عقلية وضعية، بينما الليبرالية هي مذهب فكري يقوم في أساسه على المعنى اللغوي، إلا أنه يتجاوزه ليعبر عن فكرة التحررية، وهذا المعنى يصدقه الواقع الذي نشأت فيه الليبرالية وترحلها التاريخي، وطبيعة المنظرين الذين تبنوا الفكرة، وشمولها لجوانب اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، ودخول عدد من الجوانب الإجرائية، وكثير ممن يتبنى الليبرالية رأيته يلفظها وقد اختزل في نفسه معنى الحرية، مع وجود من يتبنى الفكرة الليبرالية الوجودية التي تنظر إلى محورية الفرد في الكون، والموقف السلبي من الأديان، سواء كانت هذه الوجودية ملحدة أو مؤمنة.
كما أن بعض دعاة الليبرالية يحاول أقلمة المفهوم بحمولته الثقافية كاملة، منطلقاً من مركزية التفكير الغربي، قاطعاً مع التراث الإسلامي والعربي، مرشحاً الفكرة الغربية بشمولها، والفكرة الليبرالية على سبيل التحديد منطلقاً للانعتاق من التخلف إلى التقدم دون إدراك الفوارق بين الحضارة الإسلامية ومكونها وبين الحضارة الغربية التي هي مزيج من الفكر التأملي اليوناني، والبعد القانوني الروماني، والدين المسيحي وما يعانيه من غياب فقهي وشمولية لمجالات الحياة، بينما لا تعاني الحضارة الإسلامية من انفصال بين الدين والدنيا، أو بين الحياة والآخرة، مع وجود منظومة فقهية شاملة لا تسمح بتحييد الدين عن الحياة، أو نزع القيم من الحياة أو فلسفتها بناء على النفعية المحضة والنسبية المطلقة.
إن الليبرالية كأي فكرة بشرية ليست شراً محضاً، والناس في الموقف من الأفكار مثل موقفهم من المنتجات المادية، يبدؤون بالممانعة الشديدة والنظرة التوجسية، ثم يهدؤون ليميزوا بين مواطن الرفض ومواطن القبول، وخاصة في الشأن الإجرائي المحايد، والفرق أن المنتج المادي يعبر عن نفسه جودة ورداءة، بينما الأفكار يعبر عنها حاملوها، وعلى قدر وعيهم وفهمهم للأفكار يستطيعون التبشير بها، وهذا ما يصعد قضية التوجس تجاه الطرح الليبرالي، حين يشعر البعض من هؤلاء أن القيم والهوية والأخلاق مستهدفة من الطرح الليبرالي، وخاصة حين يتحولون من التبشير بالفكرة إلى الهجوم على بعض المسائل القطعية الشرعية، وينتقلون من نقدهم لبعض مظاهر الواقع وعجزه ونقصه إلى الإزراء بالتاريخ الإسلامي كله، والقيم الشرعية، ومحاولة التعدي إلى طرح أفكار متطرفة لبعض الليبراليين، وخاصة الطرح الإلحادي الذي يتلبس بلبوس الليبرالية والدعوة إلى الحرية.
إن المحصلة النهائية من نقض فكرة الليبرالية لابد أن يعقبها ترشيح البديل الذي ينطلق من الرؤية الخاصة، والظروف الواقعية بعيداً عن ترحيل المفاهيم ومحاولة أقلمتها مع مصادمتها الشديدة لفكر الأمة وتعاليمها، ولن نعدم عقولاً نيرة ترسم معالم أفكار تنتج نهضة وحضارة ورقياً، كما رسمها المسلمون في التاريخ، وشيدوا حضارة أسهمت في النهضة المعاصرة، وإن إرجاع الثقة بالذات، والتقليل من جلدها، والنظرة النقدية التي تميز بين الأفكار قبولاً ورفضاً، والحكمة التي هي ضالة من ينشد النهوض دون قطيعة مع العالم، بل التفاعل مع كل مجال إيجابي يمكن أن يؤدي إلى نفع وخير، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، ومعرفة أفكار الآخرين بعمق كما قال عمر الفاروق رضي الله عنه: (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا دخل في الإسلام من لا يعرف الجاهلية).