أرى ضرورة اتخاذ قرار استراتيجي لإعادة جميع وسائل النقل إلى إشراف وزارة النقل السعودية، بما فيها تنظيم شركات الطيران الجوي، وهيئة الطيران المدني، وإعطاء الوزارة الصلاحية الكاملة في تنظيم هذا القطاع المهم
منذ سنوات طويلة وأنا أطالب بضرورة إعادة هيكلة بعض الوزارات، وإعادة بعض المؤسسات العامة وبعض المراكز والمعاهد إلى تبعية الوزارات المتخصصة. ومع حداثة التنظيم الإداري في الإدارة القديمة فترة تأسيس المملكة لم تكن بعض الخدمات في مواقعها الرئيسية، وإنما ارتبطت بالوزارات القوية، رغبة في إعطاء المزيد من الاهتمام والدعم والمساندة، ومع تطور الزمن وكبر حجم الدولة ومسؤولياتها وتضخم الجهاز الإداري الحكومي ومع تضخم حجم الوزارات والمؤسسات العامة والمراكز أصبح لزاماً على مخططي التنظيم الإداري في المملكة إعادة النظر في هيكلة الخدمات ومراكز ومؤسسات الخدمة بما يتواءم مع ارتباطها الإداري والخدمي والإشرافي، لتحقيق الهدف الرئيسي، وهو تطوير الخدمة وإحكام الرقابة عليها. والأمثلة الناجحة على إعادة هيكلة بعض هذه المراكز قرار الوزير الأسبق المتميز أشهر وأنجح وزير للتجارة في المملكة الدكتور سليمان السليم حفظه الله وزير المالية السابق الذي كان أول قراراته عند تعيينه وزيراً للمالية آنذاك نقل ارتباط مصلحة الإحصاءات العامة من وزارة المالية إلى وزارة التخطيط وذلك لارتباط المعلومة وتحليلها بالتخطيط وكان قراراً سليماً، وكذك فعل عند نقل ارتباط معهد الإدارة العامة من وزارة المالية إلى وزارة الخدمة المدنية، وكان قراراً صائباً لارتباط المعهد كمؤسسة تدريبية لموظفي الدولة للوزارة المعنية بموظفي الدولة. وكذلك كان قرار الملك عبدالله صائباً عندما قرر تسمية وزارة المواصلات بوزارة النقل، وضم تبعية المؤسسة العامة للموانئ السعودية إلى إشراف وزارة النقل، ويرأس مجلس إدارتها وزير النقل، في حين كانت المؤسسة العامة للموانئ مستقلة ترتبط مباشرة بخادم الحرمين الشريفين، وكان ذلك لظرف استثنائي رغبة في معالجة بعض الأزمات التي واجهت الموانئ السعودية، وتطلبت قرارات سريعة لتطوير الموانئ بعيداً عن البيروقراطية الحكومية. فعندما انتهى الغرض اتخذ القرار التنظيمي الصائب بضمها إلى وزارة النقل. ووزارة النقل رغم حداثة اسمها إلا أنها إحدى أعرق وأهم الوزارات التي قدمت عملاً رائعاً ومتكاملاً ومازالت تقدم في مجال اتصال السكان في المدن والقرى والهجر في جميع أنحاء المملكة من خلال شبكة الخطوط البرية المنتشرة في جميع أنحاء المملكة.
كما استطاعت وزارة النقل بقيادة وزيرها المتميز أخي الدكتور جبارة الصريصري ـ الذي يعمل بصمت وبدون طرقعة وجعجعة إعلامية ويعمل بروح الفريق بعيداً عن سلطوية القرار ـ استطاعت الوزارة أن تنجح بعد حلم خمسين عاماً في أن تحول هذا الحلم إلى واقع بإنشاء خط سكة حديد الحرمين بناءً على تبني خادم الحرمين الشريفين لهذا المشروع الإسلامي العملاق، والذي سيُسجل ضمن إنجازاته العملاقة فترة حكمه، ولم يبق على تحقيق هذا الحلم سوى عامين أو أقل، والأمل أن تتوسع شبكة السكك الحديدية في المملكة لتشمل ربط الغرب بالوسط والشمال بالجنوب، وربط جميع مدن المملكة بالعاصمة المقدسة مكة المكرمة والعاصمة السياسية الرياض. وأجزم بأن هذا المشروع أحد أهم الأولويات لأبناء هذا الوطن، الذي يعاني أكبر معاناة في السفر من وإلى العاصمتين، وهو أمر ليس بالصعب تحقيقه، إلا أنه يحتاج إلى الدعم المالي وتخصيصه مسبقاً، وإعطائه أولوية. كما أنه يتطلب الأمانة في التنفيذ.
أخي القارئ إن هذ المقدمة الطويلة هي بوابتي لطرحي اليوم المطالبة بإعادة التنظيم الإداري لقطاع النقل السعودي، ليشمل النقل كما هو متعارف عليه دولياً النقل البحري والجوي والبري والسكك الحديدية، ومنظومة النقل في المملكة مازال ينقصها أهم عنصر وأسرعه وهو النقل الجوي، الذي مازال طائراً يغرد في سرب وحده، ورغم الدعم والمساندة اللامحدودة من قبل صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران المفتش العام إلا أنه ـ وللأسف الشديد ـ لم تنجح الخطوط السعودية خلال العقدين السابقين في تحقيق أهدافها، أو تحقيق طموحات المواطنين المسافرين عليها سواء كان داخلياً أو خارجياً، ولم تستطع أن تلحق بسبق المنافسة في الخدمة وجودتها، أو في مواءمة الطلب بالعرض، أو غيرها من الخدمات الأخرى. وقد استشعر مجلس إدارة الخطوط السعودية هذه المشكلة واتخذ القرار الجريء بخصخصتها، إلا أنه ـ وللأسف الشديد ـ حتى هذا القرار لم يتحقق كما كان يتوقع له، ولم تستطع قيادة الخطوط السعودية أن تحقق النجاح الذي كان متوقعاً منها، حتى بالحماية والدعم التي استمتعت بهما الخطوط خلال الخمسين عاماً الماضية. لم تستطع الخطوط أن تقف على سواعدها لتدخل حلبة المنافسة بالجودة، ولأجل الخطوط السعودية وحمايتها خرج أول منافس وليد جديد من السوق بعد خسارة ضخمة نتيجة المنافسة غير العادلة مع الخطوط السعودية، ونتيجة قيود الطيران المدني وتداخلاته غير العادلة في التسعير المرتبط بالبعد الاجتماعي، وفرضه في الطيران الداخلي، بالإضافة إلى نقاط النقل وامتياز الخطوط السعودية. وأخشى أن يخرج الوليد الثاني للطيران التجاري المنافس للخطوط السعودية من السوق سريعاً بعد أن حقق خسائر تقارب البليون ريال، وإذا لم نستعجل دعمه ومساندته فسيختفي قريباً، وتكون خسارة أخرى للاقتصاد السعودي. ولهذا ـ ومن وجهة نظري الشخصية ـ أرى ضرورة اتخاذ قرار استراتيجي لإعادة جميع وسائل النقل إلى إشراف وزارة النقل السعودية، بما فيها تنظيم شركات الطيران الجوي، وهيئة الطيران المدني، وإعطاء الوزارة الصلاحية الكاملة في تنظيم هذا القطاع المهم، والعمل على فك احتكار النقل الجوي من الناقل الخطوط السعودية، وفتح المجال للمنافسة العادلة للطيران الخاص الوطني، ولا مانع من فتح الباب للناقل الخليجي للدخول في المنافسة في النقل الداخلي، وهو المهم والمُلح في الطلب في الوقت الحاضر، ولا أرى ما يمنع أو يخيف الخطوط السعودية إذا دخل منافس خليجي لها في الخطوط الداخلية، شريطة عدم تقييد التسعيرة داخلياً، وترك التسعيرة للسوق وللمنافسة في الجودة والعرض.
إن تحرير الطيران من الامتيازات هو مطلب رئيسي للمنافسة، ونقل مهمة النقل الجوي لإشراف وزارة النقل سيساهم في ضبط الأمور أكثر، لأن فشل إدارة الخطوط السعودية حتى الآن يعود في رأيي إلى فكر القياديين الذين لم يتم اختيارهم بناءً على أسس مهنية مبنية على خبرة طويلة في المجال، وهي قضية تعاني منها الكثير من أجهزة الدولة. والحقيقة لم ألحظ في الدول المتقدمة رؤساء لشركات طيران بمراتب وزراء أو ممتازة أو غيرها، فالشركات تجارية يحكم تعيين رؤسائها الخبرة والكفاءة والتميز والإبداع بفكر اقتصادي، ولم أجد في الدول المتقدمة رؤساء جامعات بمراتب وزراء أو نوابهم وكذلك في المؤسسات العامة. ولهذا فإنني بطرحي اليوم أتمنى على صاحب القرار أن يعيد تنظيم النقل الجوي بضم مسؤوليته لوزارة النقل، ولنا في تجربة المؤسسة العامة للموانئ أكبر مثال ناجح. حيث استطاعت وزارة النقل بتنظيمها الجديد معالجة أزمات الموانئ، وهي أكبر وأهم للاقتصاد السعودي. إن خدمة الخطوط السعودية أصبحت أكبر مشكلة يعاني منها المسافرون، والقضية ليست وليدة اليوم، إلا أنها تتضخم وتظهر في المواسم، والحلول وقتية ومؤجلة، ولن تُعالج القضية إذا لم يعاد تنظيم هيكلية الخطوط السعودية من مؤسسة حكومية غير ناجحة إلى شركة مثلها مثل شركات الطيران الأخرى، تدار بفكر اقتصادي، ويتم اختيار قياداتها حسب الخبرة والكفاءة، وليس حسب التزكية والمعرفة الشخصية.