ما نعيشه اليوم، يتطلب منّا إعادة التفكير في علاقة التقنية بالواقع. فما نشاهده اليوم هو أن التقنية الاتصالية المتقدمة كانت ولا تزال هي القناة التي جعلت من عودة الفرد العربي إلى الواقع أمرا ممكناً

سيطرت على الفكر الفلسفي في القرن العشرين النظرة للتقنية على أنها حجاب بين الإنسان وبين الطبيعة والواقع والآخرين. الإنسان الذي كان يمارس الإنتاج بيديه ويتصل مباشرة بالأرض والأشجار والحيوانات، يعرفها ويندمج معها في سياق واحد طبيعي أصبح اليوم معزولا عن كل هؤلاء بالآلة التي قامت بدوره السابق. لم يعد الفلاح يتعامل مباشرة مع نباتاته ولم يعد يرعاها بيده بل لم يعد يعرفها إلا طعاما على الطاولة أو صورة للترفيه. الحيوانات أصبحت محجوبة عن الإنسان معزولة هناك في مكان قصي بينما كانت تشاركه حياته اليومية تعرفه ويعرفها في السابق. الناس الذين كان يشاركهم الفرد العيش الحر في الطبيعة نزحوا عنه ليصبحوا كائنات تحتجب بالتقنية. التقنية والعالم الصناعي الحديث وضع الإنسان في عالم مختلف، عالم يعزله يوما بعد يوم عن الطبيعة التي هي أمه وعن الناس الذين هم إخوته وأخواته. ابتعد الإنسان عن عائلته فشقي وتحول كما قال هاربرت ماركوزه إلى الإنسان ذي البعد الواحد متجها باستمرار وبسرعة إلى مزيد من الانعزال والغربة. تواصل هذه النظرة تحليلها النقدي لعصر التقنية ساخرة من اعتقاد الإنسان بأنه هو من يتحكم في الآلة، في التقنية، أنه هو من يتحكم فيها وسيسخّرها لخدمته. الواقع يقول إن الآلة هي من يتحكم في نهاية المطاف فالتقنية لها منطق خاص. المنطق الذي يعطيها قوتها الخارقة ولا يستطيع الإنسان الاستغناء عنه. البشرية مع كل تقنية جديدة تدخل في سلوك ونمط من التفكير لا إرادي لم يتوقعه حتى صانع التقنية. خذ مثالا مواقع التواصل الاجتماعي كالفيس بوك والتويتر وتأثيرها في رؤية الإنسان لخصوصيته وطريقة تعبيره عن نفسه ونمط العلاقة الجديد بينه وبين الكثير من الكائنات البشرية. الآلة إذن هي من تفرض علينا منطقها وعالمها تبدو محايدة مستسلمة لنا ولكنها أصبحت هي العالم الذي نعيشه.
آخرون قالوا إن الواقع ذاته مات مع التقنية. الفرنسي جون بودريارد ناقش طويلا كيف أن الواقع الذي كان يعرفه الإنسان الذي كان يعرف أمه الطبيعة قد مات لنعيش كلنا في عالم افتراضي تصنعه التقنية وتصنعنا معه. الأحداث الكبرى في حياتنا لم نعد نصل إليها إلا من خلال مسرح التقنية الافتراضي. ولذا كتب بودريارد أن حرب الخليج الأولى لم تقع. الذي وقع وعرفناه هو عرض فني في التلفزيون. ما حدث فعلا لم يعرفه إلا قلة ممن باشروا الحدث في الكويت والعراق، البقية لم يعرفوا سوى عرض على شاشة التلفزيون أخرجه جنرالات الحرب وأساطين القنوات التلفزيونية. التلفزيون والنت هو العالم الذي نعيشه ونرى من خلاله، هو المجال الذي يصوغ تفكيرنا ورؤيتنا حتى لم نعد نرى إلا من خلال منطقه وعالمه الافتراضي. ليست شاشة النت عالما ننفصل عنه بمجرد الابتعاد عن الكمبيوتر بل هو العالم الذي نعيشه حتى في ما نعتقد أنه العالم الحقيقي أو الواقع كما نحب أن نسميه. لم يعد هناك عالم افتراضي وعالم واقعي أصبح هناك عالم واحد عالم افتراضي هو الواقع.
إلا أن ما نعيشه اليوم، يتطلب منّا إعادة التفكير في علاقة التقنية بالواقع. فما نشاهده اليوم هو أن التقنية الاتصالية المتقدمة كانت ولا تزال هي القناة التي جعلت من عودة الفرد العربي إلى الواقع أمرا ممكنا. أي أنها هي القناة والعالم التي من خلالها وحدها وصل الفرد العربي ليمارس دورا حقيقيا في الشارع الذي تحت منزله. بقي الفرد العربي معزولا عن الواقع ولو كان تحت قدميه. أي أن الاستبداد جعل بين الإنسان وبين واقعه الذهني والجغرافي حاجزا من الخوف. فهو لا يستطيع أن يفكر بحرية ولا يبحث عن مصالحه الشخصية بشكل طبيعي. جعل الاستبداد من الفرد مغتصبا في روحه يخدم جلّاده كل يوم وكل لحظه. الشارع والميدان العام أصبحت أماكن معادية لا تنتمي للفرد بقدر ما تجسّد اغترابه وشعوره بالوجود الخطأ. الذي حصل مع التقنية أن هذا الإنسان وجد طريقه أخيرا إلى الأرض إلى واقعه مرورا بالعالم الافتراضي. كان المتشائمون من محللي الحال العربية يراهنون أن لا خلاص لهؤلاء إلا بمساعدة كائنات من العالم الخارجي. ما حصل في الربيع العربي شيء من هذا القبيل فقد تدفقت الملايين للشوارع والميادين العامة من شاشات النت ومع ذبذبات أجهزة اتصالاتهم. عادوا لعالمهم الحقيقي من عالم جديد. العالم القديم بقي بلا حل. الآلة هنا بكل ما في منطقها من المفارقة كانت أقرب للفرد العربي من واقعه المرير. لم يكن للفرد العربي واقع، كان له وجود مسلوب، وجود بلا حرية، تغريب الآلة للإنسان كما رآها أحرار الغرب هو أنسنة للإنسان العربي. الإنسان الجزء من الطبيعة، الإنسان الذي وجد ليعرف شركاءه في الوجود هو إنسان مختلف عن الإنسان العربي. الفرد العربي ولد معزولا عن ذاته، عن حريته، الآلة أعطته حرية أعطته وجودا حقيقيا، الآلة زفته إلى الشارع والميدان العام، الآلة زفته إلى الآخرين، بل زفته إلى ذاته. الآلة أتاحت للفرد العربي أن يعيد اكتشاف الحرية في داخله. أعطاه القمر الفضائي والنت حق الاختيار، أعطاه جهازه المحمول طريقا لإنسان آخر. أعطته الآلة طريقا آمنا، أعطته الأمان ليولد من جديد، ليصبح إنسانا. عالم بودريارد الافتراضي أقرب للفرد العربي من عالمه السابق الذي صنعه المستبد. الواقع الذي مات لم يكن واقعا بل كان موتا للإنسان، العربي عاد للحياة بموت واقعه. العالم الافتراضي الذي تقدمه الآلة عالم وجد فيه العربي مَحضَنا ولّد فيه حريته ورعاها حتى استطاعت أن تسير على قدميها لتقول أنا موجودة.