علينا أن ندرك كعاملين في المجال التربوي أن إعداد الطلبة العاملين في المجال المدني يختلف جملة وتفصيلا عن المناهج المخصصة لإعدادهم كعسكريين، وإن كان العنصر الجامع لكليهما لا يتعدى تثبيت الأولويات من الانتماء الديني والوطني

يسيئني أن أرى شبابا من أبنائنا وبناتنا يرقص طربا لمديح جاءه من غرب الأرض أو شرقها، وأنا من دمعت عيناها خجلا عند سماعها كلمات بثت لتبهر وتزلزل أقداما لا تقوى على الصمود، من أفراد لم يفرقوا بين الغث والثمين، ممن اعتقد أن شهادة كتلك مضمونة، وأن ذاك تصفيق ومهما كان مصدر شرف، المهم أن يكون بلغة أجنبية، وأنه بذلك بلغ عنان السماء، وأتساءل من المسؤول عن هذه الحال النفسية الضعيفة التي وصل بعضنا وبعض أبنائنا إليها..؟! فإما حالة من الاستسلام والسعي الحثيث النشط لكسب رضا الآخر ولو على حساب خصائصنا الدينية والوطنية، أو حالة معاكسة تماما من رفض وهجوم وانغلاق، ولأني أعتقد كغيري أن كلا الطرفين بحاجة إلى إعادة تأهيل نفسي أكتب اليوم هذه الكلمات، وأطالب التعليم العام والتعليم الجامعي بإفساح المجال لتنمية الثقة في نفوس أبنائنا وبناتنا من خلال تأهيل المعلمين والمعلمات والأكاديميين والأكاديميات للكيفية المثلى للتعامل معهم، والحد من هذا التعسف الذي نتابعه يوميا، فمن الواجب فتح المجال لسماع أصوات الطلبة والطالبات والحد من كبر وظلم بعض القائمين على التعليم، ومن الواجب أيضا الحد من سلطة المعلم التي تظهر لي مطلقة لا حدود لها، فالطالب يخاف وقد يستسلم ليصل في النهاية إلى الانهزام، فكيف نعاتبه لو انبهر من ذاك التصفيق وذاك التبجيل والإنصات والإعجاب الآتي من الغرب والشرق، فهو لم يعتد سماع ذلك منا، فمدارسنا جوفاء وجامعاتنا صماء، والظلم فيهما مستشر، والتعالي عنوانهما الأمثل.
هل أنا هنا أهاجم.. نعم ولي الحق في ذلك، فبناتنا وأبنائنا خائفون، ولنا أن نتصور حال الطالب قبل أن يقدم شكوى بسبب ظلم معلم تعرض له.. إنه يفكر ويبحث هل هناك احتمال ولو بسيط أن يكون مجددا تحت رحمة هذا المعلم؟! أم لا؟ فإذا كان هناك احتمال واحد في المئة في تدريسه يحجم عن تقديم الاعتراض خوفا من ظلمه لا احتراما له، ثم سرعان ما يتوجه إلى المولى سبحانه بالدعاء عليه رافعا أكف الضراعة للرحمن الرحيم الذي حرم الظلم على نفسه وجعله محرما على عباده.
وسأكون صريحة.. لقد بدأت التدريس ما إن تخرجت كمعيدة في كلية الآداب، وآنذاك وجهت من قبل من سبقني في التعليم بضرورة الحزم ثم الحزم، ولا بأس لو وصل الأمر بي إلى الشدة ، فسني الصغير -آنذاك- قد يكون سبباً في عدم احترام الطالبات، وقد طبقت هذا التعنت لثلاث سنوات تقريبا، كنت فيها لا أعرف الابتسامة، والوجوم هو القناع الذي أرتديه قبل دخولي لقاعة الدرس، وكيف لا أفعل وبعض الطالبات كن أكبر مني سنا، وأخشى أن أفقد تلك الهيبة المزعومة؟! وعملي كما صور لي يشابه عمل السجان والجلاد، استمر وضعي هكذا إلى أن قيض الله لي بعظيم فضله أستاذي الدكتور رفقي زاهر رحمه الله وأسكنه فسيح جناته المشرف على رسالتي للماجستير والدكتوراه، فحدثته عن معاناتي وكرهي للتدريس، فأنا أرتدي ثوبا تضيق به أنفاسي، وبعد حديث طويل طلبت مرافقته وملازمة زوجته يحفظها الله كمستمعة في محاضراته التي كان يلقيها على طالبات الكلية، فقبل طلبي مشكورا.
وجدير بالإشارة هنا أنه رحمه الله كان كفيف البصر لا البصيرة، وأثناء محاضراته كانت القشعريرة تسري في أطرافي، فهو عندما يحاضر تنصت الطالبات، ثم يصمت ليستمع لمن لها وجهة نظر، رأيته منصتا كما رأيته متحدثا وفي كلتا الحالتين انبهرت، فكيف استطاع أن ينشر تلك الحال من الوقار متحدثا، وتلك الحالة في الإعجاب وهو منصت، وكيف تمكن دون تشنج من كسب احترام الطالبات، ليبذلن الكثير لنيل أعلى الدرجات في مادته ، نعم.. لم تكن أسئلته سهلة المنال، إلا أنها لم تكن أيضا تعجيزية أراد منها إذلال الطالبات، فالامتحان بالنسبة له ليس ساحة معركة يثبت المعلم به جهل الطالب أمام علمه الذي لا ينفد، ولا يحرم الطالب من علامة يستحقها حفاظا على معدل درجات مقررة مسبقا، فالامتحان بالنسبة له الطريق لإثبات التحصيل العلمي للطالبة، فلا بأس لو حصلت الطالبة على أعلى الدرجات فهو كمعلم قد بذل واجتهد، وهي كطالبة بذلت الجهد واستحقت التقدير والتفوق.
علينا أن ندرك كعاملين في المجال التربوي أن إعداد الطلبة العاملين في المجال المدني يختلف جملة وتفصيلا عن المناهج المخصصة لإعدادهم كعسكريين، وإن كان العنصر الجامع لكليهما لا يتعدى تثبيت الأولويات من الانتماء الديني والوطني، فالدين ليس شعائر تطبق لدقائق أو ساعات أو حتى أيام دون أثر يذكر، فديننا هو حياة نفوسنا وأجسادنا، وبلادنا هي الدماء التي تسري في هذه الأجساد وتكفل لها الدفء والنشاط، فحب الوطن والانتماء إليه ليست قصيدة تظهر في احتفال وطني لتموت في نهاية الاحتفال، هو سلوك يظهر في أفعالنا قبل أقوالنا، ودون الإيمان بهذا الدين الحنيف، ودون الانتماء لهذا الوطن يكون الضعف والقلق والخذلان هو نصيب فلذات أكبادنا، وطرق تعاملنا معهم قد تقلب الطاولة علينا فيصبح أبناؤنا أعداء لنا وخنجرا في صدورنا، بدل أن يكونوا سندا ودرعا يحمينا، كارهين لنا ومحبين لغيرنا، ممن عرفوا نقاط الضعف فصفقوا عندما أحجمنا، وشجعوا عندما أدبرنا، وابتسموا عندما تهجمنا، وانصفوا عندما ظلمنا.