ما زلنا نقع في التخبط حول تحديد الجاني وبالتالي معاقبته بسبب اختلاط أطراف المسؤولية، ونقف في نقطة الحيرة من جرائم الطفولة بين المجرم المغتصب، والأسرة التي أخفت جناية المجرم وألجمت صرخة الطفولة المغتصبة
هل تتوقع أن يتم التشهير بالتجار الذين يتلاعبون بالأسعار ما دام وحش جدة الذي يغتصب الصغيرات البريئات لم يشهر به حفاظا على مشاعره وتكتفي الصحف بنشر صورة قفاه؟!
سؤال مهم أرسله أحد القراء للزميل خلف الحربي مستنكراً التحفظ على صورة وحش جدة وعدم نشرها رغم أن جريمته لا يعادلها في الوحشية والقذارة والإجرام والعنف أية جريمة، ساق السؤال الزميل خلف في مقاله دروس حوادث الاغتصاب بعد مقارنة عقلانية بين الحكم بالسجن ثلاث سنوات مع الجلد لمغتصب سيدة في المدينة المنورة، وبين قضية سارق الخروفين الشهيرة، ليضعنا أمام المفارقة الواسعة والمعكوسة التي ميزت الحكمين وارتأته، واصفاً الحكم الأول ـ وقد صدق ـ بأنه سياحي فالمجرم سيقضي مدته ويعاود إجرامه كعادة الجناة في جرائم الاغتصاب، فما إن يخرجوا من السجن إلا ويرتكبوا أبشع منها، ربما الزميل خلف متخوف من حكمٍ صادمٍ سيأتي كدلالة مفارقة ذينك الحكمين.
الموقف بعامة يجعلنا في مواجهة صريحة مع أنفسنا، ومع الثقافة التي أنتجت مواقفنا نحو مفاهيم الإجرام الحقيقية وردود أفعالنا وأحكامنا تجاهها، والتي أظن أننا مازلنا نتعامل فيها ضمن محرِّكين أساسيين هما: مفهوم الجرم الجماعي وهو مفهوم ناشئ عن ثقافة القبيلة التي تستهلكنا في عصر المدنية، ومفهوم العيب المرتبط دوماً بشخص المجني عليها الأنثى الذي جعل الكثير من الأسر تفضل السكوت، وإن كان الثمن استمرار المجرم في ممارسة جرائمه الخطف والاغتصاب، الجريمتان اللتان لا يمكن في أي مكان من العالم المتحضر السكوت عنهما، بل السكوت عنهما بحد ذاته جريمة يعاقب عليها القانون.
ربما يكون العيب المرتبط بالأنثى مفهوما في ثقافة العربي الشهيرة بالعبث على حساب النوع الجنسي، لكن أن تنسحب العبثية لباحة الطفولة فيسكت الأهل عن الجرائم القذرة باسم العيب الملصق بالجنس، وإن كانت الأنثى طفلة بريئة لم ترتسم بعد علامات الأنوثة عليها، فتلك هي الجناية الحقيقية التي على كل المؤسسات التوعوية والتربوية الالتفات لها قبل أن نسقط في براثن الاعتداءات المسكوت عنها لأجل التخلف القهري المرتبط بثقافة العيب المشدودة إثماً وعدواناً تجاه المرأة الأنثى وإن كانت طفلة بريئة لم تعِ بعد معنى أن تكون مجرمة بلا ذنب.
في آخر متابعات الوطن لقضية وحش جدة ارتفع عدد ضحايا طفلات هذا الذئب البشري إلى 19 ضحية، تتراوح أعمارهن بين السابعة والعاشرة، وأول ضحية كانت منتصف عام 1429 ما يدل على أن العدد تفاقم نتيجة السكوت الإجرامي عن هذا الوحش الذي أرهب الطفولة وأقض مضاجع البراءة، وقد كانت آخر الطفلات التي سجلت أقوالها متعرفة على المشتبه به طفلة يمنية، لكن ما يؤسف له حسب ما جاء في تقرير الوطن هو تعرف فتاتين سعوديتين على المتهم، لكن ذويهما رفضوا تسجيل اعترافهما، وغادروا الشرطة دون توجيه أي شكوى ضد المشتبه به!!، هذا الموقف من أسرتي الضحيتين يعكس لنا قيمة العيب مقابل حقوق الطفل إذا ما قيس بمستوى وحشية الاغتصاب، فضلاً عن غياب مسؤولية الضمير، أو أن يحرك ساكناً أمام مسؤوليته المجتمعية ودوره المفترض لإنقاذ أطفال المجتمع من وحش مسعور يتحين الفرص لينشب مخالبه في أجساد الطفولة اللدنة، وهو موقف يجعلنا نجزم بإدانة الأسر والمجتمع واشتراكهم في الجريمة.
الجمعية السعودية لرعاية الطفولة قامت مشكورة بتشكيل خمس لجان لتقديم الدعم لضحايا وحش جدة، تضم لجنة قانونية يرأسها المحامي عدنان الزهراني، ولجنة التأهيل النفسي وترأسها الدكتورة مها حريري، ولجنة التواصل المجتمعي ويرأسها صالح شيرق، واللجنة التربوية برئاسة سالم الطويرقي، واللجنة الإعلامية برئاسة سعيد الحربي، وتسعى الجمعية للدفاع عن الضحايا ومعالجة الآثار النفسية التي تعرضوا لها وتأهيلهم من أجل تجاوز تلك المرحلة من خلال التواصل مع أهالي الضحايا وزيارتهم وتقديم كافة أنواع الدعم لهم، وهو عمل ينمي الجانب المشرق لحقوق الطفل والذي أتمنى من الجمعية أن توسع دائرته ليشمل المجتمع بأسره، وإشراك الأطفال بتوعيتهم إزاء التعامل مع الأغراب، فالمستهدف هو الطفل أولاً وبالتالي على الجمعية أن تنشئ شبكة تواصل مع كل المؤسسات التربوية لعمل جهد مشترك يسع كافة فئات المجتمع بمن فيهم الطبقة المستهدفة أولاً الأطفال؛ إناثاً وذكوراً.
يطالب استشاريون في علم النفس بسرعة سن قانون يجرم مرتكبي الإيذاء الجنسي والبدني الذي يتعرض له الأطفال، وبالطبع يدخل في صلب مطلبهم هذا تحديد سن الطفولة المعترف به عالمياً، وهو الأمر الذي أباه بعض من يدّعي التدين عندما هاجوا وماجوا ضد تحديد سن الزواج، ومنع الوالدين من تزويج القاصرات، هاجمين بسيل من خزعبلات قصص تراثهم!، ولا شك أنه لا فرق في الإجرام بين أب يزوج طفلته، وآخر يغتصب طفلة آخر، فكلاهما مجرم بصورة أو بأخرى.
مازلنا نقع في التخبط حول تحديد الجاني وبالتالي معاقبته بسبب اختلاط أطراف المسؤولية، ونقف في نقطة الحيرة من جرائم الطفولة بين المجرم المغتصب، والأسرة التي أخفت جناية المجرم وألجمت صرخة الطفولة المغتصبة، ومجتمع مازال يسبّب لإخفاء صورة الجاني بتبريرات تخلط الحق بالباطل، مقدمة حيل الجاهلية على مسؤولية الكسب والاكتساب الفردانية، فمن المسؤول؟ وأين حق الضحية الطفلة؟ وكيف نحافظ على واحة الطفولة ونحن بشكل أو بآخر نخترق براءة ساحتها بتبرير الاغتصاب؛ بادعاء الحلال ـ أحياناً ـ أو بالسكوت عن الحرام خشية العار أحياناً أخرى؟!! والسؤال الأجدى هل سيأتي يوم نرفع فيه لثام التخفي ونعلن عن مشاكلنا وجرائم مجتمعنا بكل تجرد؟