القادمون الجدد في غير مكان عربي يحاولون البحث عن تبريرٍ عندما يواجهون فشلاً أو حتى مشكلة صغيرة، وبالتالي فحكاية النظام البائد بكاملها أضحوكة كبرى
بودي أن أجد وقتاً كافياً كي أبحث لبعض العرب عن فلول النظام البائد، وسأتبرع راضياً بالوقت والجهد والمال، وسأحزم حقائبي وأغيب عن أهلي وربعي؛ كي أساهم في رفع الضيم والكربة عن الذين يفقهون، والذين لا يفقهون معنى التغيير.. أصدقكم القول؛ لقد أرقني هذا الموضوع كثيراً، وسألت نفسي سؤالاً قومياً خطيراً: لماذا لا أكون نافعاً ومتعاطفاً مع صيحات الشكوى التي يبديها كل قادمٍ جديد إلى السلطة؟ وما الذي يمنعني من أن آتي بما لم تستطعه الديموقراطيات الواعدة؟ خصوصاً وأنتم ترون المشهد العربي الذي لا تتحرك فيه نملة منذ سقوط بغداد؛ إلا وقيل لنا إنها تحركت بإرادة هذا النظام المتسلط، ولا يُحز فيه رأس (حلبوب) ضال إلا بتوصية منه ومن أتباعه وأزلامه، وعليه فإن جيناتي التي أتشارك معكم في ضلالها تناديكم أن تكونوا في قامة الحدث، وأن تفلوا حتى رؤوس أطفالكم بحثاً عن هذا النظام الذي يغزو كل التفاصيل، إذ لا حرية ولا ديموقراطية ولا حتى تنمية إلا بالقبض عليه، ومن ثم تسليمه لأقرب حزب جديد، أو محكمة ثورية. لكن يجب علينا أولاً أن نتتبعه على موارد الماء، وفي الخرابات القديمة، ومقاطع اليوتيوب، فالخبراء يقولون إنه يمشي معنا في الأسواق، ويشاركنا قهوة الصباح، ويختار لنا حتى برامج التلفزيون المفضلة، ونوعيات بسكوت الشاي! المدهش أن النظام البائد الذي ذاب كالملح في أكثر من بلد عربي؛ لا يزال يمسك باللعبة كما يدعي القادمون الجدد، ويمنع الثوار من الهدوء والسلام والسكينة، بل ويستعد لثورة مضادة تعيد الثوريين إلى المربع الأول. ولذلك فالمطلوب من كل ثائر عربي أن يكون يقظاً وأن يشك حتى في نفسه، وفي كل ما حوله، وألا يؤمن بشيء يختلف مع ما تقوله الميادين العامة، ومحمد حسنين هيكل، ومصطفى بكري، والأحزاب التي تتوالد كالفطر في دنيانا العربية الجديدة.. أكذوبة النظام البائد هذه تكاد تجعل العرب من الأمم المنقرضة التي تلاشت قبل أن تفقه ما معنى التغيير؟ فأدنى مشكلة تصادف الثائرين الجدد أو من يشبههم تعاد إلى النظام البائد، وأي نظام عربي جديد لا بد أن يعيد مشاكله إلى النظام البائد، ويبدو أن خبراء (الشماعات) يعرفون جيداً نوعية الأعذار التي تستعطف قلوب الناس، وبالتأكيد لا يوجد أفضل من نظام بائد لا يملك ضراً ولا نفعاً؛ لتعيد إليه كل المنكرات وترتاح من مواجهة مشكلات ما بعد التغيير. ألا ترون أن العام الثامن ـ كمثال ـ يحل على نكبة العراق، ومازال البعض هناك يعيدون مشاكلهم إلى: أذناب النظام البائد، وفلول البعث، والصداميين، والتكفيريين؟! وهي مصطلحات حفظتموها بالتأكيد، وتستطيعون إكمالها بسهولة، لكن في واقع الأمر ليس ثمة فلول نظام بائد ولا يحزنون، كل ما في الأمر أن أحفاد السيد جحا يختلقون الأعذار كالعادة، وأن القادمين الجدد في غير مكان عربي يحاولون البحث عن تبرير عندما يواجهون فشلاً أو حتى مشكلة صغيرة، وبالتالي فحكاية النظام البائد بكاملها أضحوكة كبرى، يروج لها على نطاق واسع، وتُستخدم أحياناً بمنتهى الغباء، وكأن المتلقي لا يفهم شيئاً، وقد تحولت إلى ثقافة عربية لها من يدافع عنها، ويتبناها منذ سقوط بغداد، ويبدو أن حجة مسح السبورة هذه ـ عفواً النظام البائد ـ تتكرر الآن في مصر، وربما في غيرها قريباً، وسيقول القادمون ـ الثوريون الجدد ـ أياً كانت توجهاتهم، وعندما يتصارعون على الكراسي الفارغة ثم يواجهون مشكلة: إنهم أتباع النظام السابق، وربما يقولون جلاوزة النظام السابق، وكلمة جلاوزة هذه لها وقع على اللسان، وعادة لا يستخدمها إلا سكان المنطقة الخضراء في بغداد المجيدة، وهم أول من نشر هذا المصطلح بين العرب، وعلموهم كيف يستطيعون مداراة الفشل بجملة، أو تصريح طائفي بغيض.. صدقوني لم أتوان يوماً عن متابعة الأحداث العربية، وكل مشكلة مرت من أمام عيني لا بد أن أجد لها مبرراً، أو سبباً أرضي نفسي بأنه معقول ـ ولو بالعافية ـ إلا مسألة النظام البائد هذه لم أستطع هضمها بالمرة. مع كل ما هضمت من الموبقات العربية، وما أكثرها.