أذكر جيدا حين كنت في معرض الكمبيوتر في الرياض قبل أكثر من عشر سنين، كانت ليلى سعيد زوجتي القديسة رحمها الله برفقتي، قلت لها طابعة الليزر قيمتها 4150 ريالا أكثر من ألف دولار؟ أجابت خالص في العلم لا تبخل على نفسك؛ فكانت حكمة بليغة من حكمها الكثيرة التي أحفظها، وأنا علمت نفسي أن لا أبخل في العلم فأنفق بدون تردد وبسخاء لأنه أعظم استثمار، وما زلت أذكر والشيء بالشيء يذكر أنني وفي أول تبادل فكري بيننا أنني سألتها كيف ترين الدنيا والآخرة وكيف نفهم ألوانا من الظلم المخيف يحدق بالعالم؟ أو سؤال أشد ثقلا يروى فيه عن ابن تيمية أنه قال إنه سؤال تزلزل منه الجبال! سألتها لو كفر إنسان عشرين سنة فكيف يخلد من أجل رقم محدود في عذاب لا نهائي؟ التفتت إليَّ رحمة الله عليها وقالت خالص ضع لنفسك قواعد ولسوف تريحك قلت لها أريحيني أراحك الله قالت: أجاب الرب فقال ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين.
عقبت أنا فقلت فعلا هناك آية أخرى من سورة الأنعام فيها يلزم الرحمن نفسه بالرحمة فيقول إنه كتب على نفسه الرحمة؛ فلنطمئن لرحمته بعد عدله فقد بدأ كل سورة بذكر اسمه مقرونا بالرحمة مضاعفا: الرحمن الرحيم..
وهذا اللون من التفكير أي الاهتمام بعالم الأفكار أكثر من عالم الأشخاص والأشياء رأيته على نحو واضح مع داعية اللاعنف السوري جودت سعيد حين كنا في الجولان نمشي باتجاه بير عجم وأنا أتأمل الفيلا التي بنيتها هناك على أمل العودة إليها؛ فودعتها بعد أن فقدت الأمل في العيش فقلدت إبراهيم عليه السلام، وغادرت بلاد البعث إلى يوم البعث، وقلت إني مهاجر إلى ربي، وجعلتها كلمة باقية في عقبي.
قال الرجل تأمل الفيلا وتمتع ولكن مقالة واحدة مما خطه قلمك هي في نظري أهم من هذه الفيلا فهذه تزول والفكر خالد.
وصدق الرجل فقد قال المسيح يوما للحوارين: اكنزوا لكم كنوزا في السموات حيث لا يسرق السارقون ولا ينقب الناقبون ولا يأكل السوس ويفسد الصدأ؛ فحيث كنزك هناك قلبك، ولا يقدر الإنسان أن يخدم سيدين في وقت واحد؛ الله والمال؛ فاختر لنفسك ما هو خير وأبقى.
وهذه الفلسفة بنى جودت سعيد حياته عليها وكانت ليلى أكثر منه عملية ولكنها كانت من نفس النبع والمعين الصافي فقد جاءتني زوجة بحقيبة ملابس وودعت الدنيا بحقيبة ملابس لا تزيد، وكانت زيادتها من العلم لذا كانت تقول لي خالص لا تبخل بالعلم وهو ما فعلته أنا فعملت لنفسي مكتبة ضخمة تضم آلاف الكتب من ذخائر الفكر الإنساني، وحيث وضعت قدمي للاستقرار كما فعلت مؤخرا ببناء مقر لي في مدينة الجديدة في المغرب كانت غرفة الكمبيوتر دوما هي الأساس والقاعدة، لأن فيها قلمي وقلبي وروحي ووحي أفكاري المنهمر.
وحين بنيت تلك الفيلا ثم اشتريت فيلا أجمل في مونتريال في كندا لم يكن يخطر أنني لن أسكن هذه ولا تلك، بل ستنتهي حياتي كما هي عند الفيلسوف البدوي في غرفة في باريس.
وأنا حاليا أعيش في الرياض عمليا بمساحة ثلاثين مترا مربعا تكفيني لقيمات طيبات وصحة جيدة وحمام منعش وسرير مريح، فهذه الدنيا بحذافيرها، ولو اطمأننت على دخل تقاعدي مريح لودعت عالم الكدح بغير تردد، ولكنني جربت التعاقد مع مؤسسة ظننت أنها تحترم الكاتب وتكرم المفكر فألقوني في الطريق ولم يبالوا أو يحترموا العقد ووقته، وهي ليست المرة الأولى ولذا أكرر دوما أن شاطئ الأمان عندي هو ملقط ومشرط وعملية جراحية أي أن رزقي من مهنتي الطب فقد أراحتني وأكرمتني أنا ومن حولي وأعانتني جدا في أن أعيش نسبيا مرتاحا واشتري من الكتب أو الكمبيوتر ولواحقه ما أحب؛ فعمرت حياتي بالعمل الفكري وما زالت، وأنا حاليا أدفع المال الكثير للمصادر الألمانية فأقرأها بمتعة لأنها تفتح الآفاق عندي في أحدث ما تنتجه مطابخ الفكر الإنساني، ولقد قرأت قبل أيام خبرا كشف أحد أسرار نهايات ثلاث حضارات في أمريكا الوسطى من المايا والازتيك والتيلوكتين وذلك بقراءة أرشيف لا يخيب من شجر السدر الغليظ الذي ينمو حتى 12 مترا عرضا ويرتفع حتى أربعين مترا طولا، ويعرف العلماء من حلقات الشجر طبيعة البيئة التي عاشتها المنطقة، فأمكن ومن دراسة استغرقت مسح أكثر من ألف سنة أن ما قضى على تلك الحضارات فترات طويلة من الجفاف وفوق كل ذي علم عليم.