كنت أحاول الاحتفاظ بصلب هذه الورقة كي تكون مدخلاً لفصل من كتاب قادم عن طبيعة وـ ميكانيزم ـ التحولات الاجتماعية في كوامن المجتمع السعودي الحديث، لولا أن شدني بعنف مقال الصديق، الدكتور، عبدالرحمن الوابلي،
كنت أحاول الاحتفاظ بصلب هذه الورقة كي تكون مدخلاً لفصل من كتاب قادم عن طبيعة وـ ميكانيزم ـ التحولات الاجتماعية في كوامن المجتمع السعودي الحديث، لولا أن شدني بعنف مقال الصديق، الدكتور، عبدالرحمن الوابلي، بحر الأسبوع الماضي وهو يحلل شخصية ـ بريدة ـ مستخدماً ضرب معامل الإرث والحدث التاريخيين في التغذية الثقافية والاقتصادية المكثفة التي مرت بها مدينته الأصل ليظهر عليها هذا التحول السريع بكل ما يحمله من إرهاصات لدلالات سالبة أو موجبة. وقلة جداً هي تلك المدن التي تستطيع أن تفرض إيقاعها الثقافي ونمط تحولاتها على دوائر المجتمعات من حولها مثلما فعلت بريدة في الفعل الوطني الشامل، ومثلما أزعم أن ـ أبها ـ قد قامت بذات الدور وإن بطريقة وفي مساحة مختلفة. والفارق الذي لا أجد حرجاً في البوح به أن بريدة كانت رائدة النظرية فيما أبها كانت معمل التجربة. الفارق أن فكرة ثقافية تبدأ من بريدة لا بد أن تصدح بصوتها أولاً من مسارح أبها ومنابرها ومنتدياتها الثقافية، وبالإحصاء الدقيق، فإن نقاد وشعراء ووعاظ ودعاة (الأصل من بريدة) وفي الفترة من منتصف الثمانينات الميلادية إلى نصف تسعينات القرن الميلادي المنصرم كانوا يتحدثون في منابر أبها ومخيماتها وناديها الأدبي ومواسمها الصيفية الثقافية أضعاف ما كانوا يتحدثون به إلى مدينتهم الأصل وهذا بزعمي مجرد معامل من بين كل العوامل التي رسمت معالم تحولات هذه المدينة. ودائماً ما تتصرف المدن ككائن حي، وفي علم دراسات الاجتماع فإن الكائنات الأكثر حياة من بين المدن هي تلك المدن التي تستطيع أن تصل بإشعاعها إلى الدوائر القريبة والبعيدة مثل منظر الحجر المرمي إلى بحيرة الماء: ذاك ما فعلته بريدة بكل تميز وذاك ما استقبلته أبها وحاولت تقليده وإن بامتياز ودرجة أقل.
وخذ بالمقاربة ما يمكن أن تنبئ به مؤشرات خطابات الحداثة والصحوة وإرهاصات الخطابين على المشهد المحلي كي تعرف أثر وتأثير المدينتين ورؤيتي آنفة الذكر لمفهوم منشأ النظرية ومعمل التجربة. وأنا لا أزعم إطلاقاً هنا أن ـ أبها ـ كانت منبعاً جوهرياً لسيادة أو ولادة أي من الخطابين. لكن هذا لا يمنعني من القول بثقة أن أبها كانت المسرح المفتوح لصدامات الحداثة مع المختلفين معها وأنها كانت مدينة الأحبار التي كتبت فيها أكثر الكتب انتشاراً ضد الحداثة ومن هو الذي يستطيع أن يتجاهل معركة الزملاء الدكاترة عوض القرني وسعيد الغامدي ومن هو ذاك الذي يستطيع أن ينكر أن فرع جامعة الإمام في أبها سابقاً كان المنارة التي تصرفت على الدوام كأكثر مؤسسة جامعية يمتد أثرها الذي تختلف أو تتفق معه ليصبغ مشهدنا الوطني الثقافي وأنا هنا في حل عن تعداد الأسماء والرموز التي تستطيع أن تقول معها بثقة إنها المعامل الرئيس في تشكيل ثقافة جديدة. وبمثل ما كانت ـ أبها ـ سواء الرموز التي تصدرت خطابات الحداثة والصحوة بمثل ما أتاحت لكل الفرقاء حرية أن تكون مسرح الحروب الثقافية الطاحنة لكل الأطياف في لحظة من الزمن. وعلى خطى، جمال حمدان في كتابه الشهير، شخصية مصر، فإن هذا ما تفعله بعض المجتمعات وبعض المدن حين تكون فترات التحول الثقافي والاجتماعي مفاجئة وقصيرة وحاسمة وحين يكون هذا التحول السريع جداً بعد ركود طويل لوجه هذه المدن الأزلي الروتيني. هذا بالضبط ما كان لبريدة ومن ثم أبها وهي تعيش ذات الظروف من المعيار الاجتماعي: صورة عظيمة واحدة لمئات السنين ثم طفرة ثقافية حاسمة وسريعة وفي مثل هذه البيئة تنشط الأفكار والمدارس للفوز بالحصة الأكبر ومن ثم فرض أنموذجها على هذا التحول. ولقرون طويلة، نامت أبها، مجرد بضع قرى متناثرة تشكل على ضفاف واديها بذرة المدينة. ولكنها على العكس تصرفت على الدوام كبيئة حضارية مرهفة تناغم فيها جمال الطبيعة مع قدرتها المدهشة على توظيف الفنون والإحساس الاستشرافي في ذوق مدهش، وقبل قرن من الزمن، كانت تصطبغ بتأثير عشرات العائلات التركية التي جلبت مقاييس الفنون وأنماط الحياة المخملية بقياسات ذاك الزمن. وعلاوة على استئثارها بخيال واسع في الوصف الجمالي الفلكلوري لكل منظومة الجبل الواسعة في آلاف المخيلة الفلكلورية الشعبية، فإن أبها وللمفارقة قد تكون في صدارة المدن العربية وهي تستأثر ووحدها باثنتين وأربعين أغنية وصفية ناهيك عن مئات الشعراء الذين كتبوا قصائد الجمال في وصف هذه المدينة ولكن: لماذا يبدو مخبرها اليوم جافاً بعكس الملمس الناعم في المظهر؟ والجواب أن أبها كانت ضحية هذه التحولات بمثل ما كانت نقطة اللقاء بين المدارس. وبؤرة الاستهداف وبمثل ما يكون ـ معمل التجربة ـ مرتبكاً ومحطماً بفعل آلاف الداخلين إليه. هي مثل فاتنة تدفع ضريبة الجمال. انقرضت تلك القرى لتنشأ مدينة جديدة كان لا بد لها أيضاً أن تتحول بكل ما يحمله التحول الجديد من نسف واهتزاز لشخصيتها ليصبح كل السابق مجرد شكوك رهيبة أفقدتها توازنها الثقافي. هنا كان لا بد لها إلا أن تكون ـ تابعة ـ كي تستطيع أن تلبس الثوب الجديد وبزعمي أن هذا هو المدخل الصحيح لقراءة تحولات مدينة لم تتحول لنفسها فحسب، بل كانت حتى لغيرها بيئة تحول. ذاك بالضبط ما يفرزه المعمل.