التوجه العالمي الذي لا بد أن نتفاعل معه، هو نتيجة دراسات علمية. كما أن جميع الدول التي نأت بنفسها عن التعمق في مجال إنتاج الكهرباء بهذه الوسيلة هي من دول العالم الأول

دهشت عندما قرأت تصريحين يظهران أن هناك خلافاً - وبتعبير أدق عدم وضوح- فيما يخص الرؤية المستقبلية بين الجهات المسؤولة عن الطاقة في المملكة. الأول كان نقلاً عن منسق التعاون العلمي لمدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة. قال فيه إن المملكة تخطط لإنفاق ما يقارب 100 مليار دولار لبناء 16 مفاعلاً نووياً خلال العشرين سنة القادمة.
أما التصريح الثاني فكان لوزير البترول والثروة المعدنية حيث أكد الوزير أن السعودية، هي صاحبة أكبر احتياطات نفطية في العالم، وأنها شرعت مؤخراً في أعمال بحث وتطوير كبرى للطاقة الشمسية وذلك لعلمها علم اليقين أن النفط مصيره النضوب، وفي نفس الوقت فإن للسعودية مخزونا كبير سواء من الطاقة الشمسية والمواد الخام اللازمة للخلايا الشمسية.
الانتماء لرأي من الرأيين قضية مهمة. المفاعلات النووية وصلت مرحلة متقدمة من الكفاءة في توليد الطاقة، ومنذ أن وافقت إدارة الطاقة النووية في الولايات المتحدة على إنشاء أول مفاعل نووي يهدف لإنتاج الطاقة الكهربائية في ولاية أيداهو شهر ديسمبر من عام 1951م، مروراً ببدء الإنتاج الفعلي للطاقة الكهربائية من مفاعل نووي في بنسلفانيا عام 1957 م، مرت عملية إنتاج الكهرباء باستخدام المفاعلات النووية بمراحل مهمة. حيث تطورت التقنية المستخدمة في المفاعلات، وأصبح الإنتاج أكثر كفاءة نتيجة البحوث العلمية وحرص الدول المستخدمة على خفض التكاليف.
رغم أن توليد الكهرباء من خلال الطاقة النووية بالنسبة لدول أوروبا أقل من تكلفة الإنتاج باستخدام النفط. ورغم أن مصادر الطاقة الأخرى لم تصل إلى تكلفة منافسة تبرر التحول إليها، إلا أن التوجه نحو التخلص من المفاعلات التي تنتج الطاقة الكهربائية أصبح قوياً لدرجة تدعونا للمطالبة بالتوقف، والتمهل قبل أن نتحول إلى استخدام الطاقة النووية لتوليد الكهرباء.
ففي عام 1991م كانت 31 دولة تنتج أو تعمل على إنتاج الطاقة الكهربائية عن طريق المفاعلات النووية. إلا أن ستاً من هذه الدول بدأت عملية الانسحاب التدريجي من خلال إغلاق المفاعلات و إيقاف تراخيص إنشائها. هذه الدول هي النمسا والسويد وإيطاليا وبلجيكا وإسبانيا. ووصل الحال بالنمسا وإسبانيا إلى درجة إصدار قوانين تمنع الترخيص بإنشاء أي مفاعلات جديدة. الولايات المتحدة عرابة هذا التوجه لم تصدر أي تراخيص لمفاعلات جديدة. وألمانيا قررت تعجيل خطط التخلص من جميع مفاعلاتها لتتوقف تماماً عن توليد الطاقة بهذه الوسيلة بحلول عام 2022م.
يلاحظ أن هذا التوجه أصبح استراتيجية لخطط هذه الدول وهو بسبب مبررات معروفة تتمثل في:
1- الأثر البيئي: الحوادث المخيفة التي دمرت مدناً و أعاقت اقتصادات دول كثيرة كحادث ثري مايل آيلند، وحادث تشرنوبل وحادث فوكوشيما التي دمرت ما لم تستطع الحروب أن تدمره. إن المخاطر النووية الناتجة عن التسربات، والانفجارات تدمر البيئة وتهلك البشر. كما أن آثارها تتجاوز الجغرافيا والتاريخ لتؤثر على دول وأجيال لم تر أو تستفيد من هذه المفاعلات.
2- التكلفة الاقتصادية: يرى كثير من المهتمين والخبراء أن المفاعلات النووية مكلفة جداً بسبب رأس المال الذي يستثمر في بنائها، إضافة إلى تكاليف الصيانة والتشغيل التي تتجاوز ما تكلفه وسائل توليد الطاقة الأخرى.
3- تكاليف التأمين: لا يمكن أن تقوم جهة واحدة بتأمين المفاعل النووي، وقد حددت إحدى الدراسات في الولايات المتحدة عام 2005 م تكلفة التأمين على المفاعل النووي بمبلغ يصل إلى 300 مليون دولار.
4- النواحي الأمنية: تعتبر المفاعلات النووية من أهم المواقع التي تستهدفها العمليات الإرهابية.
5- إدارة المخلفات: العمر الافتراضي للمخلفات النووية لم يتم تحديده بدقة حتى الآن. تواجه كثير من الدول مشكلة التخلص من النفايات النووية. فمواقع التخزين تحت الأرض ليست حلاً منطقياً. كما أن قضبان الوقود النووي ما تزال مشكلة بسبب وجودها داخل أعمدة مسلحة قريبة من المفاعلات.
هذه الأسباب الأساسية جعلت كثيرا من الدول تعيد النظر في سياستها النووية، والعمل على البحث عن مصادر جديدة للطاقة. ورفع كفاءة وسائل توليد الطاقة المتوفرة حالياً.
مدينة الملك عبدالله للطاقة النووية والمتجددة هي الجهة التي يفترض أن تنفذ دراسة علمية اقتصادية وأمنية شفافة ومحايدة. يمكن أن تتبنى المدينة تنظيم مؤتمر دولي لمناقشة التحولات العلمية في هذا المجال. وتصل إلى تكوين استراتيجية وطنية في مجال الطاقة تساهم فيها جميع الجهات ذات العلاقة. هذه الاستراتيجية لابد أن تكون مفصلة ودقيقة لأنها ستقرر مستقبل أجيال الوطن. يجب أن تبتعد كذلك عن الاعتداد بالتخصص أو التحيز نحو توجه معين قبل الوصول إلى الرؤية الجديدة لمستقبل توليد الكهرباء في المملكة.
إن التوجه العالمي الذي لابد أن نتفاعل معه، هو نتيجة دراسات علمية. كما أن جميع الدول التي نأت بنفسها عن التعمق في مجال إنتاج الكهرباء بهذه الوسيلة هي من دول العالم الأول. هذه الدول تهتم بالإنسان كأساس، وتعتني بالاقتصاد كونها جميعاً دولا رأسمالية يؤثر عليها مفهوم التكلفة مقابل الأرباح المحققة. وعندما تقرر المملكة أن تنفق 375 مليار ريال في مجال معين، فإن هذا يستدعي كثيرا من البحث و التدقيق قبل اتخاذ القرار النهائي.
الدراسة التي أتأمل أن أراها حقيقة لابد أن تضع مصلحة الوطن قبل كل شيء. أن تستبقي من ثروة الوطن للأجيال القادمة. أن لا تجعلنا نسبح عكس التيار ونقع ضحية شراء بقايا المفاعلات التي تقوم الشركات بتفكيكها. هذه الدراسة الكبرى لابد أن تحتوي على مراجعة شاملة لأمور كثيرة منها:
1- تأمين الاحتياج من الطاقة الكهربائية بما يضمن توفيرها على المدى المتوسط وأمنها وكفايتها لاحتياج مختلف القطاعات الاستهلاكية.
2- توسيع مصادر توفير الطاقة الكهربائية: يجب دعم وتطوير وسائل توليد الطاقة الناتجة عن محطات التحلية، وتكثيف البحوث في مجال استخدام مصادر الطاقة المتجددة. إن دعم نسبة مساهمة هذه المصادر في توليد الطاقة مهم جداً كونها غير مستغلة بالطريقة المثلى حالياً. مع استمرار الاعتماد على النفط، و دعم عمليات توليد طاقة أكبر من مدخلات أقل.
3- العمل على خفض الاستهلاك: يتجه استهلاك الطاقة الكهربائية للزيادة وبشكل كبير من خلال المعلومات الإحصائية المتوافرة. إن العمل على الحد قدر الإمكان من استهلاك الطاقة الكهربائية سيساهم في سهولة توفير هذه الطاقة. هناك وسائل مهمة في مجالات وضع المواصفات و المعايير للأدوات والأجهزة الكهربائية. إضافة إلى تغيير أنماط التوسع العمراني وطرق تخطيط المدن و المجمعات السكانية والصناعية.
4- دعم البحث العلمي في مجال إنتاج الطاقة: هذا من أهم العناصر التي ستؤدي إلى توفير المتطلبات وتحمي الموارد الطبيعية. الاستثمار في مجال البحث العلمي سواء في الداخل أو الخارج سيكون له مردود قد يحقق حلولاً لا تخطر على بال أحد في المرحلة الحالية.
5- دعم التعاون الدولي في مجال الطاقة المتجددة: لابد أن يكثف التعاون مع الدول التي تعمل على توفير الطاقة بكميات أقل من المدخلات. الولايات المتحدة وأغلب دول أوروبا تعمل حالياً في هذا المضمار وهو ما يشجع على التعاون في مجال الطاقة مع هذه الدول والاستفادة من البنية البحثية التي تتوفر في جامعاتها ومراكزها العلمية.
لابد أن تتم دراسة عملية التحول هذه من نواحي حماية الإنسان والبيئة وحماية الاقتصاد الوطني، ولنركب موجة التغيير نحو الطاقة البديلة والمتجددة، بدلاً من السباحة عكس التيار.